نزيف الهجرة القروية… البادية المغربية بين الإهمال والسياسات المرتجلة
في مشهد متكرر بات مألوفاً ومؤلماً، يغادر آلاف المغاربة يومياً قراهم نحو المدن الكبرى، حاملين في حقائبهم أحلامًا بالعيش الكريم، ومخلفين وراءهم أراضي صارت عاجزة عن منحهم الحد الأدنى من الأمل. إنه نزيف صامت، لكنه متواصل، يفرغ العالم القروي من سكانه ويضع سؤال التنمية القروية على محك الحقيقة الصعبة.
وفق معطيات المندوبية السامية للتخطيط، يغادر ما لا يقل عن 152 ألف شخص سنوياً المجال القروي نحو المدن، ما يعكس واقعاً تنموياً هشاً وفجوة تتسع يوماً بعد يوم بين مغربين: مغرب المدن المتضخمة، ومغرب القرى المنسية.
يصف الخبير في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، عبد العزيز الرماني، هذا النزيف بأنه نتيجة مباشرة لغياب رؤية زراعية فعالة، معتبراً أن السياسات الفلاحية التي تم اعتمادها لم تنجح في إنقاذ الفلاح الصغير من الفقر والهشاشة. ويضيف أن غياب الدعم الحقيقي للفلاحة المتوسطة والصغيرة جعل الأسر القروية مكشوفة أمام تقلبات المناخ، وفقدان الغطاء النباتي، وبالتالي انقراض مصادر العيش الأساسية كالماشية والزراعة.
لكن المعضلة لا تتوقف عند حدود الأرض. فحتى محاولات التثبيت السكني في البوادي تصطدم بعقبات إدارية معقدة، وفق الرماني، الذي يشير إلى أن قوانين التعمير الجديدة جعلت الحصول على رخص البناء أو اعتماد مخططات معمارية في العالم القروي أمراً مرهقاً من حيث الزمن والتكلفة، ما يفاقم أزمة السكن ويغذي موجات الهجرة.
من جهته، يرى المحلل الاقتصادي خالد اشيبان أن الجفاف المتكرر صار عاملاً حاسماً في تفاقم الوضع. فالفلاحة، التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد الوطني وتشغل ما يزيد عن 40% من اليد العاملة، باتت اليوم على حافة الانهيار. ويكشف اشيبان عن رقم مقلق: سنة واحدة من الجفاف قد تعني فقدان أكثر من 200 ألف منصب شغل في القطاع الفلاحي.
وفي ظل هذه الخسائر الضخمة، يبدو أن التدخلات الحكومية لا ترقى لحجم الأزمة. إذ يرى اشيبان أن البدائل المطروحة لتشغيل الشباب القروي تفتقر إلى الواقعية والفعالية، خاصة وأن أغلب الفئات المستهدفة تفتقر للتأهيل الذي يسمح لها بالاندماج في قطاعات أخرى.
الهجرة القروية إذن، ليست مجرد حركة ديمغرافية طبيعية، بل صرخة تنموية صامتة. إنها مرآة عاكسة لاختلالات تراكمت طيلة سنوات، ونداء ملحّ لإعادة النظر في السياسات العمومية بشكل شامل. وكما يقول عبد العزيز الرماني في ختام حديثه: “إنقاذ البادية لا يكون عبر حلول ترقيعية، بل برؤية جذرية تمس البنية والخدمات والأرض والإنسان معاً.”
فالقرى لا تموت لأن سكانها غادروها… بل لأن السياسات تركتها تموت.
الصورة تعبيرية