حين تستعيد الكلمة الدارجة مكانتها في قلب المشهد الثقافي

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لم تكن ليلة افتتاح الدورة الثامنة عشرة من المهرجان الوطني للزجل مجرد موعد فني مُبرمج في رزنامة التظاهرات الثقافية، بل بدت أشبه بلحظة اعتراف جماعي بقيمة فن ظل طويلًا يسكن الهامش، قبل أن يشق طريقه بثبات إلى واجهة المشهد. تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وبإشراف وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وبتنسيق مع جهة الدار البيضاء–سطات، اجتمعت الكلمة الشعبية مع الرهان المؤسسي، في لقاء حمل من الرمزية أكثر مما حمل من الطقوس.
منذ اللحظات الأولى، بدا واضحًا أن الافتتاح لا يُراهن على الزخرف، بل على المعنى. زجل يُقدَّم لا بوصفه تراثًا يُستدعى من الماضي، بل باعتباره طاقة حية قادرة على مساءلة الحاضر ومخاطبة الإنسان بلغته اليومية، دون وساطة أو تعقيد. في هذا السياق، جاء حضور الفنان الشرقي السروتي في التقديم والتنشيط كاختيار دال، ينسجم مع روح المهرجان أكثر مما يُكمّل برنامجه.
السروتي لم يكن مُنشطًا بالمعنى التقليدي، بل كان صوتًا مرافقًا للذاكرة. صوته، المشبع بنبرة القرب، وأسلوبه الذي يمزج العفوية بالذكاء، جعلا من التقديم فعلًا إبداعيًا قائمًا بذاته. كان ينتقل بين الفقرات كما ينتقل الزجل بين الأزمنة: بسلاسة، وبدون ادعاء، وبوعي عميق بأن الكلمة حين تكون صادقة، لا تحتاج إلى تزيين زائد. بدا وكأنه يستحضر تاريخًا طويلًا للكلمة المنطوقة، تلك التي وُلدت في الأسواق والحقول والمواسم، قبل أن تجد لها مكانًا على ركح المهرجانات.
الافتتاح حمل في طياته إشارات قوية إلى التحول الذي يعرفه الزجل المغربي اليوم. من ممارسة شفوية كانت تُصنّف خارج “الأدب الرسمي”، إلى جنس إبداعي يحظى بالاحتفاء، ويُدرج ضمن السياسات الثقافية، ويُناقش في الفضاءات الأكاديمية. هذا التحول لم يكن وليد قرار إداري، بل نتيجة مسار طويل من الإيمان بالكلمة الدارجة، وبقدرتها على حمل القضايا الكبرى، من همّ اجتماعي، وذاكرة جماعية، وأسئلة هوية وانتماء.
في فضاء الافتتاح، تلاقى الرسمي بالحميمي دون تنافر. جمهور متنوع، حضور وازن لزجالين وفنانين وفاعلين ثقافيين من مختلف جهات الوطن، وتفاعل لافت جعل القاعة أقرب إلى فضاء مشاركة منه إلى منصة عرض. لم يأتِ الجمهور ليكون متفرجًا صامتًا، بل ليصغي إلى ذاته، وليجد في الزجل مرآة تعكس لغته ومشاغله وأحلامه.
الدورة الثامنة عشرة، كما بشّر افتتاحها، تُعلن بوضوح أنها لا تبحث عن تكرار الصيغ الجاهزة، بل عن تجديد يحترم الأصل. وفاء لروح الزجل الأولى، وتجريب في طرق تقديمه، وانفتاح على قضايا الراهن دون التفريط في نكهته الشعبية. زجل يُصالح بين الذاكرة والآن، بين ما كان وما يمكن أن يكون.
في قلب هذا المشهد، شكّل حضور الشرقي السروتي علامة فارقة. فهو، بما راكمه من تجربة فنية، وبما يتمتع به من حس لغوي مرهف، يُجسّد الجسر الذي يعبر عليه الزجل بين الأجيال. يعرف كيف يُنصت قبل أن يتكلم، وكيف يمنح الكلمة وزنها دون أن يُثقلها بالاستعراض. حضوره لم يكن تفصيلًا في برنامج، بل جزءًا من الرسالة التي أراد الافتتاح إيصالها.
هكذا، لم يكن افتتاح المهرجان الوطني للزجل إعلانًا عن انطلاق تظاهرة ثقافية فحسب، بل كان بيانًا ثقافيًا غير مكتوب. بيان يقول إن المغرب، وهو يحتفي بفنونه الشعبية في أعلى مستوى من الرعاية الرمزية، يختار ثقافة قريبة من الناس، نابضة بلغتهم، ومتصالحة مع ذاكرتهم. وفي هذا البيان، ظل صوت الشرقي السروتي حاضرًا، يذكّر بأن الكلمة حين تنبع من وجدانها، لا تبحث عن وطن… لأنها تكون الوطن ذاته.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.