يشهد المغرب في الآونة الأخيرة نقاشًا مجتمعيًا حول مشروع تعديل مدونة الأسرة، الذي طال جوانب عديدة من الحياة الاجتماعية. إذ تتباين الآراء بين من يرون في هذه التعديلات خطوة نحو تحديث القانون بما يتماشى مع التغيرات الاجتماعية، ومن يرونها تهديدًا للثوابت الثقافية والدينية للمجتمع. وفي هذا السياق، يبرز التساؤل حول تأثير هذا المشروع على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، خاصة في ظل ارتفاع ظاهرة العزوف عن الزواج، التي أصبحت سمة بارزة في صفوف الشباب المغربي.
يأتي هذا النقاش في وقت كشفت فيه إحصاءات 2024 عن تحول ديموغرافي ملحوظ في البلاد، حيث انخفض مؤشر الخصوبة وارتفع معدل سن الزواج، مما ينذر بتأثيرات طويلة المدى على التركيبة السكانية، وفقًا لما خلص إليه متخصصون في المجال. ويواكب هذه التغيرات زيادة في نسبة الشيخوخة، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الاقتصاد الوطني على استيعاب هذه التحولات، في وقت تزداد فيه الحاجة إلى تعزيز نظم الحماية الاجتماعية.
ويرى مراقبون أن تأثير هذه التغيرات الديموغرافية لا يقتصر على الجانب الاجتماعي فحسب، بل يمتد إلى الاقتصاد الوطني بشكل عام. فمع انخفاض نسبة الشباب في القوى العاملة وارتفاع نسبة المسنين الذين يحتاجون إلى رعاية اجتماعية وصحية، تتزايد الضغوط على أنظمة التقاعد والتغطية الصحية. ويشدد المراقبون على ضرورة التفكير في استراتيجيات تكاملية تضمن التوازن بين التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بما يحقق استقرار المجتمع ويسهم في تنمية اقتصادية مستدامة.
وفي هذا السياق، يرى الباحث المتخصص في التنمية وإعداد التراب، عبد الله الحجوي، أن الإعلان الرسمي عن التوجهات العامة لمشروع تعديل مدونة الأسرة أثار نقاشًا واسعًا بين المهتمين والمتخصصين في قضايا الأسرة، سواء من التيار الذي يصنف نفسه بالمحافظ أو من التيار المحسوب على التوجه الحداثي.
ولفت الحجوي إلى أن الزخم الذي ترتب عن المشروع الجديد للمدونة يُعد أمرًا صحيًا، بالنظر إلى أهمية النقاش المجتمعي في قضايا الأسرة باعتبارها النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية. إلا أنه أشار إلى تساؤل جوهري حول مدى عمق التحولات الاجتماعية التي يتوقع أن يفرزها تعديل المدونة من جهة، وانعكاساتها على مسار التنمية في ظل معطيات إحصائية حديثة، أبرزها تنامي ظاهرة العزوف عن الزواج لدى الشباب، وارتفاع نسبة الطلاق، فضلًا عن تراجع نسبة النمو الديموغرافي وارتفاع نسبة الشيخوخة.
وقال الحجوي في تصريح لوسائل الإعلام الإليكترونية إن المعطيات الإحصائية لعام 2024 أظهرت أن النموذج الإنجابي المغربي يشهد تحولات عميقة في اتجاه ما يُعرف بـ”النموذج الإنجابي الغربي”، الذي يتميز بعدة خصائص، من أبرزها ضعف نسبة النمو الديموغرافي، وارتفاع معدل سن الزواج الأول، وارتفاع نسبة العزوف عن الزواج، وانخفاض معدلات الخصوبة.
وأضاف أن المؤشر التركيبي للخصوبة انخفض من 2.5 طفل لكل امرأة في عام 2004 إلى 1.97 طفل وفقًا لمعطيات 2024، وهو معدل يشير إلى توجه النمو الديموغرافي نحو الركود. وأوضح أن المعدل الذي يسمح بتجديد الأجيال لا يجب أن يقل عن 2.1 طفل لكل امرأة. وأكد أن هذا التراجع أثر بشكل بالغ على متوسط نسبة النمو الديموغرافي السنوي للسكان، التي انخفضت من 2.06% في عام 1994 إلى 0.85%.
وأوضح أيضًا أن من أبرز انعكاسات هذه التحولات البنيوية في المعطيات الديموغرافية، ارتفاع نسبة الشيخوخة التي انتقلت من 9.4% في عام 2014 إلى 13.8%، مما رفع عدد المسنين (60 سنة فما فوق) إلى حوالي 5 ملايين نسمة. وقال: “إذا كانت هذه المعطيات تبرز تراجع الدينامية الديموغرافية للمجتمع المغربي، فإنها تنذر بتزايد الضغط على أنظمة الحماية الاجتماعية (التقاعد، التغطية الصحية) بالنظر إلى الحاجيات المرتفعة للمسنين في مجال الرعاية الاجتماعية بمفهومها الواسع”.
وأضاف الحجوي أن المخاوف التي عبر عنها العديد من المهتمين بشأن مستجدات مشروع مدونة الأسرة تظل منطقية ومشروعة، لأن التعديلات الجوهرية التي ستطال الإطار القانوني للعلاقة الزوجية قد تفاقم الوضعية الديموغرافية أكثر. خاصة في ظل ارتفاع نسبة البطالة وعجز الحكومة عن ابتكار آليات جديدة لتوسيع سوق الشغل لتلبية حاجيات الشباب العاطل. بمعنى أن التوجهات الجديدة قد تزيد من نسب العزوف عن الزواج، مما سيعقد الوضعية أكثر.
وخلص الحجوي إلى أن السرعة والاهتمام الذي أولته الحكومة لمشروع تعديل مدونة الأسرة يعكس تهريبًا للنقاش نحو قضايا يمكن اعتبارها مجرد أعراض لمشاكل أعمق وأكثر تأثيرًا على واقع التنمية في البلاد. وأكد أن تحسين وضعية النساء يتطلب إرادة وشجاعة سياسية كافية لوضع برنامج طموح يعالج الفقر والهشاشة والتفاوتات المجالية، ويعزز فرص النساء في التعليم والصحة والعمل. فالنساء الأكثر معاناة هن من ينتمين إلى الأسر الفقيرة وغير المتعلمة، سواء في الأحياء الشعبية أو القرى والمناطق الجبلية التي تعاني من مفارقة بين الثروات الطبيعية والفقر الاجتماعي.
وأكد الخبير أن إيجاد حلول جذرية لمشاكل البطالة والفقر والهشاشة الاجتماعية كفيل بتحسين وضعية الأسر المغربية، بنسائها وأطفالها ورجالها، قبل الحديث عن تعديل مدونة الأسرة. بمعنى أن الأولوية يجب أن تُمنح لتحقيق التنمية، وبعد ذلك يمكن الحديث عن أي تعديلات قانونية ضمن نقاش مجتمعي حقيقي مبني على التشاور والإنصات.