غروب فرنسا

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 

بقلم: سعيد ودغيري حسني

قبل أن تتكلم جريدة لوموند عن مستقبل الملكية في المغرب، كان عليها أن تعود إلى بيتها أولًا. أن تنظر في مرآتها المشروخة. أن تتأمل وطنها الذي يتعثر في خطوه. فرنسا لم تعد تلك القوة التي تملأ الدنيا وتسيطر على الخيال، بل صارت ظلًا ثقيلًا يتجول بين أزقة التاريخ.

الاقتصاد يترنح كشيخ فقد توازنه. نسبة النمو لا تتجاوز ستة أعشار في المئة عام خمسة وعشرين. البطالة تصعد حتى بلغت ثمانية في المئة. شباب الضواحي يركضون وراء أمل بعيد فلا يجدون إلا جدارًا. التضخم يهدأ على السطح لكنه يخفي تحت جلده صخرة صلبة من الأسعار الملتهبة. العجز المالي نزيف بلا توقف. ستة في المئة من الناتج المحلي تتبخر كل عام. والدين العام يثقل فرنسا حتى بلغ مئة وستة عشر في المئة من ناتجها. كأنها تحمل على كتفيها صخور القرون كلها.

الأسواق تهتز مثل غصن في عاصفة. البورصة تهوي. السندات تتأرجح. وكأن باريس على موعد مع صندوق النقد الدولي. الحكومة خيط رفيع ممدود فوق هاوية. والثقة الشعبية تتسرب من أصابع المسؤولين كما يتسرب الماء من الرمل.

في الداخل الاجتماعي يتسع الشرخ. تقشف يلتهم القدرة الشرائية. عطلات ألغيت. ساعات عمل امتدت حتى تعب النهار. مستشفيات تختنق. مدارس تتنفس بصعوبة. الخدمات العمومية تتحول إلى صدى بعيد. الشارع يغلي. الاحتجاجات تتكاثر كنار لا يوقفها مطر. والشبكات الاجتماعية صارت ساحات صراخ جماعي.

أما السياسة الخارجية، فصفحتها أكثر قتامة. فرنسا التي كانت تعتبر إفريقيا حديقتها الخلفية، طُردت من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. والسنغال أغلقت أبوابها أمام قواعدها العسكرية. كأن القارة كلها تودعها دفعة واحدة. إفريقيا لم تعد تسمع لغتها. لم تعد ترى فيها مرجعًا، بل صارت تفتح أذرعها لروسيا والصين ولقوى تبحث عن موطئ قدم في عالم جديد.

وفي الشرق الأوسط تراجع الصوت الفرنسي حتى صار همسًا بعيدًا. سوريا لم تعد ساحة نفوذها. لبنان لم يعد يستمع إلى باريس كما كان. وحتى الخليج يتعامل معها كضيف ثقيل أكثر من كونه شريكًا استراتيجيًا. ملفات السلام والطاقة والثقافة كلها تمر عبر عواصم أخرى. وباريس تبدو كقلعة قديمة ما زالت ترفع راياتها لكنها بلا جنود.

وفي العالم المتعدد الأقطاب اليوم، لا فرنسا وحدها من تعيش غروبها. الصين تصعد كجبل لا ينكسر، وروسيا تعيد رسم خرائط النفوذ بصوت مدوٍ، وأمريكا تراقب بعين ثاقبة، وتركيا تمتد بقدرة نفوذ جديدة. كل القوى تتصارع على مواقع كانت يومًا امتدادًا لخيال باريس. وباريس؟ تبقى حاملة إرث الماضي، تبحث عن دور وسط هذه اللوحة المتحركة.

الغروب لا يعني النهاية الكاملة، لكنه انعكاس واقع صعب. فرنسا أمام خيارين: أن تعود كشريك متساوٍ يحاور ويوازن، أو أن تبقى في ذاكرته صدى لمجدها المفقود، تحمله كتب التاريخ أكثر من أن تحمله الشوارع والأحياء. والأيام القادمة ستكشف ما إذا كان قلب فرنسا ما زال ينبض بالإرادة، أم أن الظلال ستبتلع كل شيء، ويصبح الغروب نهائيًا.

الاقتصاد قاتم. الاجتماع قاتم. السياسة قاتمة. النفوذ يتبخر. والحلم يذبل. إنه غروب فرنسا. نقطة.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.