*الكاتب- عبدالرحمن جاسم
“ما حدا عبّر عن فلسطين متلك، ولا حدا رسم فلسطين زيك”
تعرفت بمحمود درويش بعدما «هجوته».
هكذا يمكن اختصار بدايات العلاقة: وقتها طلب مني الصحافي والشاعر السوري ماهر شرف الدين الكتابة في مجلة «شعر» التي خصصت عددها لمحمود درويش وتجربته الشعرية آنذاك؛ كنت وصديقي الشاعر مازن معروف الفلسطينين الوحيدين من الجيل الشاب (آنذاك) الذي كتب عن درويش؛ كان مقالي يمكن اعتباره نوعاً من «الهجو» للشاعر «الظاهرة» الذي أرّخ ولون التاريخ الفلسطيني بألوانه ولسنوات طوال.
عرفتُ بعد مدةٍ من نشر المجلّة – التي كانت تشبه المجلات الثقافية المعتادة، بيضاء، بغلافٍ تقريري مباشر، وصورة بالأبيض والأسود على الغلاف، دون أي صورة أو لون ــ أن درويش الذي كان يزور لبنان باستمرار، يرغب برؤيتنا والتعرّف علينا، وفهم ماهية هذا الغضب الذي نحتويه بداخلنا «عليه».
التقينا في أحد مطاعم الحمرا، بعدما نسّق اللقاء صديق مشتركٌ بيننا. جاء الشاعر «المقدّس»، كانت ملامحه متعبة، لم يكن لطيفاً، كان مباشراً للغاية، سألني بسرعة بعدما تعرّفنا على بعضنا، لماذا لا «نحبه؟». استغربتُ أوّل الأمر؛ قلتُ في نفسي: العمى مبلشها بعنف محمود. أخبرته أن لقاءه على قناة الـ «أوربت» كان «مخزياً». وأعترف أنني استعملت تعبيرا «مخز» لأضايقه.
بدا صديقنا المشترك مصدوماً من لغتي، حاول التخفيف منها، لكن محمود أشار عليه أن «لا بأس» وأنه «بدي أسمعه شو بده يقول». كان محمود درويش قبل هذا اللقاء قد قام بمقابلةٍ على قناة الـ «أوربت» وأشار في المقابلة إلى «حمارٍ مربوطٌ إلى شجرة» بقوله: «يا ليتنا مثل هذا الحمار لا نهتم بشيء ولا نعوّل على شيء»، قتلتني جملته تلك. كل هذه المقاومة والصراع والقتال لأجل أن نكون في نهاية الأمر «حماراً» يركب الصهاينة أو ملوك الإعراب عليه؟؟ أخبرته بما شعرت به بكل ما أوتيت من قوة. غضب محمود. أخبرني أنني لم أفهم ما كان قصده وبأننا لا «نفهم».
لم أتوقف لأسأله «من نحن». بل أكملت بزهو: ما قصدك بأننا لا نفهم، اختر بلداً في الكوكب لأقول لك اسماً لخمسة كتابٍ منه على الأقل مع عشرةٍ من كتبهم، وإذا كان الموضوع شهادات، فأنا لدي شهادتي ماجستير. كم كنتُ بسيطاً وقتها، وحاداً أكثر من اللازم. احتاجني الزمن أكثر من 10 سنواتٍ كي أعترف بأنه لم تكن تلك الطريقة لختم علاقةٍ مع الشاعر الأهم في جيله، والأهم فلسطينياً أحببنا ذلك أم لم نفعل. حاول الصديق المشترك أن يخفف من غلواء الحديث، وكنت أحمل كاميرا ديجيتال كبيرة الحجم من النوع القديم، حاولنا أن نأخذ صورة معه للذكرى كما قلت مبتسماً، ولأنها من النوع البطيء، قال بلهجته ودون لطف متأففاً: «كاميرتك بليدة». استغربت ولا أزال كيف استخدم درويش كلمة «بليدة» لوصف «كاميرا».
إلتقينا بعد ذلك في معارض كتابٍ كثيرة، لكننا لم نتحادث أبداً. مرةً كان بوجهي فهز برأسه أنه يعرفني –أو لربما نسيني وكان يجامل- وأنا فعلت المثل. مر الزمن وتعلّمت أمراً لا تتعلمه إلا مع العمر: يحق «للكبير» ما لايحق لغيره. يحق لمحمود درويش ما لا يحق لغيره أبداً. كان من الواجب علي أن أسمع رأيه، ليس من الضروري أن أوافقه عليه، لكن على الأقل أن أفهم «معطاه» الثقافي واختياره «الواعي» لذلك «الخيار الغريب».
رحل محمود وظلت في قلبي حرقة أنني لم أعتذر منه، وأننا لم نصبح صديقين، كما اسر لي صديقنا المشترك: «يا زلمة صدقني إنتوا بتكونوا أصدقاء قراب لو ما حضرتك خربت كل شي». بعد مدة التقيت صديقه القريب الشاعر الجميل عز الدين المناصرة، وحدثته بما حدث، قال لي بأن محمود كان «حساساً» للغاية، وبأن لا ريب حين عاد إلى غرفته لربما «بكى» على موقفك منه. لم يقصد المناصرة بكاء بدموعٍ وحرقة، لكن تضايقاً على موقف «حادٍ» دون سبب. حكى المناصرة كثيراً من ذكرياته مع محمود وأخبرني أنه كان شخصاً لا ينسى أحداً، بمعنى أنه ظل يعرفني ويعرف من أنا ولو بعد حين.
في الختام:
“بعتذر أخوي محمود ولو متأخرة؛ بعتذر من قلبي. كان لازم أقولك إنه لليوم ما حدا عبّر عن فلسطين متلك، ولا حدا رسم فلسطين زيك. بعتذر“.
*فلسطيني- أستاذفي الإعلام في الجامعة اللبنانية