*عــبـد الله العــــلوي
تميز المشهد السياسي المغربي خلال السنوات القليلة الماضية، بخطاب إعلامي يحمل نزعة لا إيمانية، و يتميز بعنفه وجرأته، ورفضه لكل ماهو ديني. بل ذهب البعض إلى الإعلان عن الإفطار جهارا في رمضان، وإلى المطالبة بالسماح بالعلاقة الجنسية خارج مؤسسة الزواج وبالمثلية، وغيرها من المطالبات التي تضر بعمق معتقدات الجماهير المغربية.
وكان الهدف من المواجهة التي خاضتها هذه الأصوات تهدف للتنكيل بالتيار الإسلامي… وعلى الأخص الذي يشارك في الانتخابات رغم ان هذا الأخير ظل يكرر انه مجرد” تنظيم ذي مرجعية إسلامية” أمام الهجمة الشرسة ضد القيم الدينية، في محاولة للاستفادة من ذاك الخطاب وفي نفس الوقت مواجهة الضغط الممارس عليه لطبيعته البورجوازية الصغيرة القابلة للمساومة; وقد أثار هذا الخطاب اللاعقلاني / اللاتاريخي الذي دمج في إطار حقوق الإنسان العالمية. وسوند من أشخاص ذوي مناصب شبه حكومية، في إطار ما يعرف بحقوق الإنسان.
أثار هذا الخطاب تخوفا عاما وسط الجماهير; فهناك حملة ضد اللغة العربية الفصحى وسعى لإعلاء اللهجات واعتمادها في التعليم، بالإضافة إلى الهجوم على كل ماهو ديني أو قريب من الدين حتى في الحدود الدنيا. مما أثار ريبة وتشككا لدى الجماهير من كون الأمر يتعلق بمؤامرة يقودها عدو هلامي، لتدمير القيم الأخلاقية، والدينية، ومؤسسة الزواج، وكل ما يجمع المغاربة عليه منذ مئات السنين. مقابل هذا الهجوم الشرس بدا تخوف عام من هذا الخطاب وجرأته التي وصلت حدودا قصوى «ومست برموز الإسلام السامية» علانية، و تولي دعاتها مناصب هامة رغم كون الأمر يتعلق بأقلية تدعو الى “الحــداثـة” ولا تمارسها سواء في حياتها العادية أو على المستوى العام، وتعتبر الحداثة هي تجاوز معتقدات الشعوب وإنزال المظليين وتناول الخمور والإفطار علانية في رمضان.
لقد فشل الفكر الماركسي رغم عمقه الفسلفي و “الحداثي” في الانتشار في العالم العربي والإسلامي بسبب التنظيمات الحزبية التي حملت لواء المادية الجدلية. وأعلنت عن إلحادها مقابل إيمان الجماهير التي تدعي تمثيلها. وبقيت هذه الأحزاب في عزلة صالونية قاسية مع غرور فكري; لا ينسجم مع ما يجب أن يكون عليه دورها السياسي والاجتماعي. باعتبار ادعائها تمثيل هذه الجماهير وكونها طليعتها. إلا أنها سقطت في خطاب ضد هذه الجماهير. والتجربة الشيوعية في العالمين العربي والإسلامي فشلت في استقطاب الجماهير بسبب الخطاب الإلحادي وغموض الخطاب السياسي و اللغة المتخشبة. مما أثار ريبة الجماهير من هذه الأحزاب وما تمثله. هناك تجربتان رائدتان للأحزاب الشيوعية في العالمين العربي والإسلامي الأولى في اندونيسيا والثانية في السودان، فالحزب الشيوعي الاندونيسي تأسس في 1920 واستطاع التوغل وسط الجماهير بخطاب شعبوي لا يعارض إيمان الجماهير علانية، لكنه انتهى مع ذلك نهاية دموية في 1965 حيث تمت تصفية جميع أعضاء الحزب الشيوعي الإندونيسي ذبحا بأيدي الجماهير التي يدعي تمثيلها باستثناء أحد أعضاء المكتب السياسي كان في زيارة للصين، ونفس الأمر بالنسبة للحزب الشيوعي السوداني الذي انتهى بعد المحاولة الانقلابية التي قادها ضد النظام العسكري في مطلع السبعينات وتحول بعد ذلك إلى حزب باسم آخر لا تأثير له في الحياة السياسية والحزبية. لقد كانت هذه الأحزاب نتاج أقليات أجنبية ويهودية ومرتبطة بالاستعمار وإذا أضيف “الفكر الحداثي” فإن سدا قد يكون من الدماء أحيانا تم نصبه بين هذه الأحزاب والجماهير، والأخطر أن هذه الأحزاب قد تعالت على الجماهير فهي لا تستوعب قيم الخير، والطعام، والصدقة، والمساعدات الاجتماعية، والتعزية…. وهذه القيم بالنسبة لها مجرد “أفعال” متخلفة، لأن الفكر “الحداثي” الذي حملته يتعارض مع قيم الجماهير في حين أن هذه القيم “المتخلفة” أجمعت عليها هذه الجماهير منذ مئات السنين فهي تاريخها وحداثتها.
لقد حاولت بعض الجماعات السياسية / الماركسية تجاوز الأحزاب التقليدية – في المغرب مثلا- منظمة 23 مارس والى الأمام و لنخدم الشعب والنقابة الوطنية للتلاميذ. لكن خطابها بقى منحصرا في الساحة الطلابية وحاملا لنفس السخرية من إيمان الجماهير وقيمها. مما حد من انتشارها. ويسر القضاء عليها.
أمركة الحياة والقوانين
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في مطلع التسعينات وسقوط الديمقراطيات الشعبية وسيطرة النظام الرأسمالي على العالم، بدأ الحديث عن الديمقراطية – بمعناها الانتخابي والإعلامي- فالديمقراطية هي تأسيس الأحزاب للتمييع وإجراء الانتخابات، وحرية التعبير، ودعه يعمل دعه يمر، وتم بيع القطاع العام إلى الخواص، واعتماد الوصفة السحرية للبناء الاقتصادي والاجتماعي التي فرضها صندوقا النقد والبنك الدوليان، والتي تتمثل في رفع الدعم عن المواد الأساسية وزيادة الضرائب وتحرر الدولة من ممتلكاتها، وموظفيها، وفتح المجال للأثرياء للمزيد من الثراء، وإنشاء طبقة جديدة من الأغنياء على حساب الدولة. وواكب كل ذلك صعود ما يعرف بالمجتمع المدني ونشوء الجمعيات، ومراكز الدراسات المشبوهة. وتمت أمركة القوانين فالنصوص قانونية، أو اقتصادية، أو شرعية تصدر بنفس أمريكي لان المنهزم دائما يقلد المنتصر، لكن الأمر ليس تقليدا فقط بل سيطرة وتوجيها. وهكذا بدأ خطاب جديد وحداثة أخرى: شعارها ان الدعارة هي التي لعبت دورا هاما في تحديث أوروبا، وان انفصال الدين عن الدولة هو القاطرة لربح رهان الديمقراطية. ولما كانت الجماهير لا تقرأ ولا تكتب وأغلبها يعيش تحت خط الفقر، ويلعب الدين الدور الأهم في تماسكها وتكافلها فقد انعزلت بمجتمعاتها الصغيرة، والكبيرة في القرى، و المداشر، والأحياء الشعبية، والهامشية يجمعها الفقيه والخطاب الديني/ التكافلي. وأصبحنا أمام مجتمعين متناقضين في مجتمع واحد و أصبح لكل مدرسته، وسكناه، ولغته، وأميته، وفقره.
وقد اتسعت الهوة بالانسلاخ عن المجتمع و الاستيلاب الغربي الذي عاشته “النخبة” في شكلها القديم والجديد. وعندما بدأت الدعوة إلى: المجتمع المدني والديمقراطية في شكلها الانتخابي وحرية التعبير، فقد اتضح أن حرية التعبير تعني نقد عقيدة الجماهير ورموزها التاريخية والحديثة.
وكرر التاريخ نفسه بشكل مأساوي في فشل التنظيمات السياسية التقدمية في إقناع الجماهير، وانتشر العزوف، والريبة، وعدم الثقة بين الجماهير تجاه هذه التنظيمات التي تفشت فيها ظاهرة الانقلابات الداخلية، والمصلحية، والمناصبية، والارتباك في المواقف الناتج عن انتشار الانتهازية، والصراع الوهمي على السلطات الوهمية.
ليس من السياسي ولا من التاريخي أن يدعي شخص ما انه «صلى بالناس تقية»، وليس من الفلاح السياسي « المطالبة بالمساواة في الإرث»، ولا نقد التراث لمجرد النقد فقط في مرحلة ذات طبيعة اجتماعية وسياسية ووسط جماهير متناغمة مع تاريخها الديني والفقهي والمذهبي، فالحداثة القديمة التي رفعت شعار المادية الجدلية، والدين أفيون الشعوب هي نفس الحداثة التي رفعت شعار الإباحية وحرية التعبير اللامسؤولة وسقطت في الأمركة دون أن تشعر أو قد شعرت للأسف.
*كاتب وباحث مغربي