لم يكن أكبر المتشائمين يظن أن قرار بنكيران سنة 2016 بتوظيف حوالي 11000 أستاذ في قطاع التعليم عن طريق العقدة سيتحول إلى أكبر مشكل عرفه القطاع الذي بسببه تحولت السنة الدراسية إلى “أيام إضراب تتخللها أيام دراسية”.
بداية الحكاية
الحكاية بدأت مع الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999 الذي نص في المادة 135 على أنه “سيتم تنويع أوضاع المدرسين الجدد من الآن فصاعدا بما في ذلك اللجوء إلى التعاقد على مدد زمنية تدريجية قابلة للتجديد على صعيد المؤسسة والأقاليم والجهات، وفق القوانين الجاري بها العمل”، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تكن لها الجرأة على تنفيذ ما جاء في هذا الميثاق، إلى أن جاء بنكيران الذي ترأس الحكومة المغربية بعد ما عرف بالربيع العربي الذي أطلق نظام التعاقد في وجه الراغبين في ولوج مهنة التعليم.
وزارة التربية الوطنية دافعت آنذاك عن هذا النظام مشيرة في بيان لها أن تبني الحكومة لنمط التعاقد في توظيف المُدرّسين “جاء في إطار إرساء الجهوية المتقدمة من خلال استكمال اللامركزية واللاتمركز في قطاع التربية الوطنية، وملاءمة وضعية الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بصفتها مؤسسة عمومية مع مستلزمات القانون المتعلق بالمراقبة المالية للدولة على المنشآت العامة وهيئات أخرى، وكذلك تقويتها باعتبارها مؤسسات عمومية تتمتّع باستقلالها الإداري والمالي وتتحكم في مواردها البشرية.
واعتبرت الوزارة أنه “خلال جميع مراحل عملية التوظيف هذه، حصل اختبار جميع الأطر التي جرى توظيفها، سواء من طريق المذكرات المُنظّمة لهذه العملية، أو من طريق الإعلانات لفتح باب الترشيح لاجتياز المباريات، أو عند الإعلان عن النتائج النهائية بجميع البنود المُتضَمّنة في العقود التي وقّعها المعنيون بالأمر، والتزموا احترام جميع مقتضياتها بكامل إرادتهم”.
وأوضحت الوزارة في بيان أنه تم التنصيص صراحة على الحقوق التي سيتمتع بها الأساتذة المتعاقدون (الحق في الأجرة، الحق في التعويضات، الحق في الترقية، الحق في الرخص، فضلا عن الحق في الحماية الاجتماعية… )، ومقابل ذلك، “تم إخبار الأساتذة الذين سيتعاقدون مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، بالواجبات التي يتعين عليهم القيام بها، علما أن هذه الحقوق والواجبات لا تختلف إطلاقا عن ما هو مخول للموظف العمومي”.
وأشارت الوزارة في بيانها التوضيحي الذي أصدرته في نونبر 2016 أن العقود التي ستربط المعنيين بالأمر، بالأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، يمكن أن تتحول من عقود محددة المدة إلى عقود تجدد تلقائيا كل سنة، وذلك أخذا بعين الاعتبار المردودية المهنية ومدى قيامهم بمهامهم على الوجه المطلوب، ووفائهم بالالتزامات “المنصوص عليها في عقود توظيفهم، وهو ما يشكل ضمانة حقيقية للاستقرار المهني والاجتماعي والنفسي”.
وأشارت الوزارة، إلى أن فسخ العقد أو إنهائه لا يمكن أن يتم إلا في حالة إخلال المتعاقد بإحدى بنود العقد، ولاسيما عدم الوفاء بالالتزامات المهنية، أو القيام بأفعال مشينة تمس جوهر العملية التربوية.
وتابع البيان: “أما بخصوص اللجوء إلى خيار مباراة التوظيف بالتعاقد من لدن الأكاديميات في كل موسم دراسي، أوضحت الوزارة، أن ذلك مرتبط بحجم حاجيات كل أكاديمية من الموارد البشرية، “علما أن المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، ستستمر في تقديم التكوين الأساسي والتأهيلي لفائدة الطلبة الأساتذة المتدربين، الذين يبقون ملزمين بعد الخضوع للتكوين إلى اجتياز مباريات التوظيف، التي تنظم سنويا لهذا الغرض”.
طرد و إعلان عن تأسيس التنسيقية
فسخ العقدة مع أستاذين موظفين بموجب عقد بكل من زاكورة وبولمان دفعت المتعاقدين يوم 4 مارس 2018 إلى الالتئام في إطار تنسيقية وطنية أطلق عليها اسم “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد”.
بلاغ التأسيس طالب بـ”الترسيم مع الرفض التام لأي قانون إطار خارج أسلاك الوظيفة العمومية، مع تحسين ظروف التكوين”، كما دعا “باقي الأقاليم المتبقية بالإسراع في انتخابهم ممثليهم في المجلس الوطني الذي سينعقد جمعه الثاني بمدينة الرباط يوم 1 أبريل”.
وطالبت التنسيقية “جميع الأساتذة إلى حمل الشارات الحمراء يوم 15 مارس 2018 كواجب وطني منا تجاه الأستاذ احساين بوكمان الذي قالت إنه طرد دون حق مشروع”.
في البداية اختار المنضوون تحت لواء التنسيقية اتخاذ خطوات “نضالية بسيطة” لا تؤثر على السير العادي للدراسة، بعد ذلك انتقلت التنسيقية للاحتجاج أيام العطل، ثم إضرابات ليوم واحد مع تعويض المتعلمين، إلا أن الوزارة والحكومة لم تتجاوب مع ملفهم المطلبي، وفق تصريح للكاتب الوطني للجامعة الوطنية للتعليم FNE عبدالرزاق الإدريسي.
تعديلات وإنهاء للتعاقد
ومع تحمل أمزازي مسؤولية قطاع التعليم، عقد لقاءات مع “المتعاقدين” التي انتهت بإدخال تعديلات على نظام التعاقد الذي أطلق عليه اسم جديد هو النظام الأساسي لموظفي الأكاديميات، وهي التعديلات التي دافع عنها أمزازي تقريبا في كل تصريحاته والتي يستند إليها للقول إن نظام التعاقد انتهى منذ 13 مارس 2019 عندما تم التأسيس للتوظيف الجهوي، واعتماد نظام أساسي للتوظيف الجهوي.
تعديلات أمزازي قابلتها التنسيقية بالرفض واصفة إياها بمحاولة الوزير تحوير للنقاش وتحويله إلى نقاش مفاهيمي فقط، أما جوهر نظام التعاقد فلا يزال ساريا، وما تروّجه الحكومة مجرد ادعاء كاذب وافتراء على الرأي العام.
في مارس 2019 وصل المتعاقدون إلى ما وصفه متتبعون بمعركة اللاعودة بعدما أضربوا عن العمل لستة أسابيع متتالية، قبل أن يتم تعليقه 13 أبريل 2019 عقب قرار وزارة التربية الوطنية “توقيف جميع الإجراءات الإدارية والقانونية المتخذة بحق بعض الأساتذة، وصرف الأجور الموقوفة، وإعادة دراسة وضعية الأساتذة الموقوفين”.
معركة المتعاقدين عادت لتنطلق في أكتوبر 2019، حيث أعلنت التنسيقية عن إضراب وطني ومقاطعة للتأهيل المهني بعدما رصدت جملة من المشاكل التي يعيشها الأساتذة بسبب نظام التعاقد الذي يميزهم عن زملائهم في القطاع، وفق تعبيرهم.
استمرت التنسيقية في إعلان إضراباتها وفي تنويع خطواتها الاحتجاجية، قبل أن يتم اعتقال عدد من الأساتذة السنة الماضية على خلفية احتجاجات بالعاصمة، أصدرت محكمة الرباط الابتدائية أول أمس الخميس أحكاما بحق 45 منهم.
وبحسب مصادر من “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد”، فإن ابتدائية الرباط أدانت 44 أستاذا وأستاذة من المتابعين بشهرين موقوفة التنفيذ مع غرامة مالية في حق بعضهم قدرها 1000 درهم، فيما أدانت الأستاذة نزهة مجدي بالسجن النافذ 3 أشهر.
الأحكام قوبلت بتمديد إضراب كانت التنسيقية قد بدأته يوم 28 فبراير المنصرم إلى غاية 13 من الشهر الجاري، ملوحة بإمكانية تمديده لأيام اخرى إذا لم تتم تبرئة الأساتذة وإسقاط الاحكام التي وصفت بالقاسية.
رفض نقابي.. وأولوية التعليم مجرد كلام
الكاتب العام الوطني للجامعة الوطنية للتعليم، عبدالرزاق الإدريسي، في تصريحه لوسائل الإعلام، قال إن رفضهم لفكرة التعاقد بقطاع التعليم كان مبدأ منذ الإشارة إليه في الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999، مضيفا أن نقابته جددت التأكيد على رفض التعاقد حتى وإن قبل به المعنيون بالأمر، وذلك في مسيرة 10000 إطار بمدينة الدار البيضاء.
وقال إن التعاقد يكرس الهشاشة ولا يوفر الاستقرار للمتعاقدين، مشيرا إلى أن ذلك ظهر بعد ما تم طرد أساتذة بزاكورة وبولمان بمبررات واهية.
وأضاف أن الحديث عن أولوية التعليم في المغرب مجرد كلام لا يعكسه الواقع، لأن هذه الأولوية تقتضي تصفية الأجواء ومعالجة مشاكل العاملين بهذا القطاع ومن أهمها إدماج المفروض عليهم في أسلاك الوظيفة العمومية.
وطالب الإدريسي في تصريحه وزارة التربية الوطنية بالوضوح في مسألة المتعاقدين، والكشف عماذا تقصده بإدماج المتعاقدين في النظام الأساسي المرتقب.
من جانبه قال الكاتب العام للنقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الفيدرالية الديمقراطية للشغل، الصادق الرغيوي، إن نقابته كانت من الهيئات السباقة للمطالبة إلى إدماج المعنيين به فيما سمي بنداء وجدة دجنبر 2017.
وتابع “وقبل ذلك، كنا نثير انتباه الحكومة إلى انه هناك خصاصا مهولا في قطاع التعليم وصل بحسب معطيات رسمية إلى حوالي 31000 الذي نتج عنه اكتظاظ وصل إلى حوالي 65 تلميذا في القسم في المدن الكبرى فضلا عن انتشار ظاهرة الأقسام المشتركة في مختلف المناطق الجبلية بالمغرب، إلا ان رئيس الحكومة كان يصر على عدم وجود الخصاص”.
فجأة، يضيف المتحدث، حكومة عبدالاله بنكيران بعد نكرانها للخصاص توظف 24000 أستاذا بالعقدة التي تكرس الهشاشة في قطاع التعليم الذي يعتبر القضية الثانية بعد قضية الوحدة الترابية.
وقال إنه بالرغم من الخطوات الاحتجاجية التي خاضها المعنيون بدعم من النقابة الوطنية للتعليم، فإن مطالبهم لم تجد آذانا صاغية، مشيرا إلى ان التعديلات التي أدخلها المسؤولون في نظام التعاقد ليست كافية لمعالجة هذا الملف.
وقال إن نقابته اقترحت على وزير التربية الوطنية السابق المتمثل في الإدماج انطلاقا من تجربة بعض الدول التي جربت التعاقد في قطاع التعليم وعالجتها بطرق سلسة ومرنة دون ان يتم أخذها بعين الاعتبار.
وشدد الرغيوي على ضرورة حل هذا الملف من خلال إدماجهم في النظام الجديد المرتقب والذي ستنطلق جلساته الأربعاء المقبل اسوة بإخوانهم “المرسمين” الذين قال إنهم لا يتمتعون بظروف أحسن من “المفروض عليهم التعاقد”، ولا تزال العديد من ملفاتهم لم تجد طريقها إلى الحل.
أكبر المتضررين
في ظل هذه الأزمة يظل التلميذ المغربي المتضرر الأكبر، وخاصة تلميذ المغرب العميق الذي سبب له إضراب “المتعاقدين” وعدم تدخل الدولة لإيجاد حل لهم في هدر زمنه المدرسي.
أبواب مؤسسات تعليمية مغلقة، وتلاميذ يحرمون من حصصهم الدراسية خلال فترات طويلة من السنة، لكون الأساتذة “متعاقدون” وينضبطون لقرارات التنسيقية “ممثلهم الوحيد والشرعي”، وهو ما يجعل شعار تكافؤ الفرص بين أبناء المغاربة في مهب الريح، وفق متتبعين.