زهور السايح
يجمع الفقهاء على أن الدعاء لب العبادة، لأنه إقرار عيني بالعبودية وبارتهان العبد وحاجته في جميع تحركاته وسكناته إلى المدد الإلهي، الذي لن يحصل إلا إذا توفرت شروط وآداب الدعاء في ركنيها الأساسيين؛ وهما حضور القلب في خشوع، واليقين التام بالاستجابة.
الدعاء تضرع ومناجاة العبد لربه وهو يواجه ابتلاءات الدنيا، ويجاهد نفسه ليكون في مستوى هذه الابتلاءات. مناجاة تلهج بها، دون انقطاع في السراء والضراء، ألسن وقلوب من و ف قوا إلى سلوك سبيل التوبة والترقي في مدارج الإيمان، ويركن إليها البعض استثناء كلما اشتدت بهم الكروب وادلهمت بهم الخطوب. وهو فرار فطري إلى قوة وسند الله، يلجأ إليه العبد بتفاوت درجة إيمانه، بل يهرع إليه، وعلى نحو لاإرادي، حتى من يقر بإلحاده، ولو أنكر وادعى العكس.
ورمضان فسحة زمنية رحبة للتكوين وإعادة التكوين والتمرس وإحياء الصلة بشكل حثيث مع ألوان متعددة من العبادات؛ من صيام وصلوات وتنافس على تلاوة وختم القرآن الكريم ومطالعة أو الاستماع إلى كل ما يتصل بالتفقه في أمور الدين والدنيا، وهي أيضا وبنفس الدرجة موعد للعبد مع المناجاة والتضرع وطلب المدد الإلهي والاجتهاد في الدعاء والاشتغال على ترسيخ آدابه.
وإذا كان الخشوع حالة متغيرة تزيد وتنقص بحسب استجابة الذات وتفاعلها بمحفزها الجوهري المتمثل في مدى نقاء وصفاء الروح .. هذا النقاء الذي هو ثمرة جهاد النفس ومحاسبتها وردعها عما يتيه بها عن مرافئ السلوك القويم، فإن اليقين هو كينونة ثابتة مستقرة في أعماق النفس متمكنة من القناعة في شقها العقلاني ومستجيبة للشغف الروحاني، وهي أساس الإيمان بصفات جلال ولطف ورحمة الله وكرمه.
ومن باب اليقين بفضل الاستجابة ومدد اللطف الإلهي ما جاء في منزل كتابه الحكيم “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” (البقرة ).
يقول ابن عطاء الله السكندري، الفقيه المالكي وأحد أركان الطريقة الشاذلية الصوفية (1260م- 1309 م)، في حكمه “لا صغيرة إذا قابلك عدله، ولا كبيرة إذا واجهك فضله”. وأيضا قوله “لا ي ع ظ م الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله تعالى، فإن من عرف ربه استصغر في جنب كرمه ذنبه”.
والكلمة الفصل في الآية القرآنية الكريمة في سورة البقرة “فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم”، ولم تكن تلك الكلمات التي تلقاها آدم وحي ا من عند ربه غير دعاء، كان له بمثابة طوق نجاة لاستدرار عفوه ورحمته ومدده، بعدما زلت به قدمه وغاص في إثم مخالفة التعاليم وسقط في شرك الشيطان، ووقع في ألم الندم والحيرة وعوقب بالخروج من الجنة. وهو الدعاء الذي كشفت عنه سورة (الأعراف) في الآية 23 على لسان آدم وحواء ” قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين”.
ويعظم المغزى ويجل بإدراك أن الواهب الغفار لا يكتفي بالعفو عن عبده الضال، وإنما يوجهه ويضع في يده مفاتيح نيل هذه المغفرة، ويلقنه أساليب التضرع. والقرآن الكريم مليء بأدعية تضرع بها الأنبياء والمرسلون لقضاء حاجات شتى وفي سياقات مختلفة، أو للنجاة مما لا حصر له من مصائب الدنيا وأهوالها وشطط النفوس وانكساراتها، كدعوة النبي يونس في بطن الحوت، ودعوة النبي إبراهيم ودعوة النبي نوح وغيرهم من الأنبياء.
لكن إجابة الدعاء تبقى مقيدة أصلا بوجود استجابة قبلية لدى الداعي للتعاليم الربانية، مع حصول الإيمان لديه كشرط أساسي “.. فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” (البقرة)، فالمدد الإلهي مشروط بإقبال العبد ومتاح تكرما بدرجات تفوق مستوى استجابة هذا العبد.
وعلى قدر احترام أدب الدعاء تكون الاستجابة الربانية، ومن شروطه أيضا حضور القلب عند الدعاء والتضرع، وبلوغ حالة يمتزج فيها الخشوع بالرغبة والرهبة، ويرافقها الحرص على تفادي السقوط في استعجال حصول المدد أو الميل إلى اليأس من تحققه، والانتصار، بدل ذلك، للإلحاح في الطلب، لأن الله يحب العبد الملحاح. وفي هذا يقول السكندري الملقب ب”قطب العارفين” “لا تطالب ربك بتأخر مطلبك، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك”.
وهذا مصداقا لما جاء في الحديث القدسي برواية البخاري ومسلم، يقول الله سبحانه وتعالى “أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله”. يقول السكندري في نفس المعنى “لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبا ليأسك، فهو ضمن لك الإجابة في ما يختار لك، لا في ما تختار لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد”.
فالاستجابة قطعية، إلا ما كان دعاء بإثم أو بقطيعة رحم أو غيرها مما يدخل في حكم موانع الدعاء، فإن لم ت عجل لصاحبها ادخرت له أو كانت مانعة لأذى كان سيصيبه.
وقد فصل الفقهاء في تحديد شروط آداب الدعاء لضمان الاستجابة، من ذلك طلب مسارعة العبد إلى رد ما في ذمته من مظالم، وإكثاره من أعمال الخير تطهيرا وتقربا، والتزامه بالمأكل والملبس الحلال، وإقراره بالذنب، وإلحاحه في استدرار المغفرة، مع استفتاح الدعاء بالصلاة على رسول الله، والاستنجاد بصفات وأسماء الله الحسنى، و التزام الخفية والتضرع مصداقا لقوله تعالى “ادعوا ربكم تضرعا وخفية”، وأيضا تحري أوقات الاستجابة.
وأوقات الاستجابة مشروطة بالزمن النفسي للداعي قبل الزمن في عموميته، فمتى ما كان العبد خاشعا متضرعا متوسلا في صدق كان الطريق سالكا إلى الاستفتاح والنوال، على أن لزمن العبادات حكمه ومطلق فيضه، من ذلك حظوة الشهر الفضيل، وخاصة في العشر الأواخر وخلال الصوم وعند الإفطار، وعند أداء شعيرتي الحج والعمرة، وعند السجود، وفي جوف الليل، وبين الآذان والإقامة، وغيرها كثير ..
وعموما، فإن الدعاء لا يتضمن فقط طلب تحقيق إحدى الحاجات، دنيوية كانت أو أخروية، مادية أو روحية، وإنما هو في العمق إظهار للعبودية وقيام بحقوق الربوبية، فهو استحضار وحضور؛ استحضار لضعف الذات وافتقارها الكامل إلى خالقها، وحضور بالقوة والفعل لكل صفات الله الحسنى تحقيقا لشروط العبودية، وإقرار بفضل الخالق في الإيجاد والإمداد، “فلا يكن” بحسب ابن عطاء، “طلبك تسببا إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية وقياما بحقوق الربوبية