لفتيت يطلق إنذارًا حاسمًا: الحكامة الترابية في محك الاختبار وعيون الداخلية على أدوار المنتخبين
يبدو أن وزارة الداخلية قد قررت أخيرًا إعادة ترتيب أوراق الحكامة الترابية من مدخل أكثر حساسية وواقعية: تدبير الممتلكات الجماعية، باعتباره المرآة الحقيقية لنجاعة التسيير المحلي ومدى احترام المنتخبين لمسؤولياتهم الدستورية في تدبير الشأن العام.
ففي دوريته الأخيرة الصادرة بتاريخ 6 أكتوبر 2025 حول إعداد وتنفيذ ميزانية سنة 2026، وجّه وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت رسائل واضحة وحازمة إلى رؤساء الجماعات الترابية، مؤكدًا أن زمن التساهل والتوجيه قد انتهى، وأن مرحلة الإلزام والمحاسبة قد بدأت فعلاً.
الوزير لم يُخفِ استياءه من ضعف التجاوب الجماعي مع مشروع جرد وتثمين الممتلكات، رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على صدور القرار المشترك بين وزارتي الداخلية والاقتصاد والمالية بشأن تحديد نموذج سجل المحتويات. فباستثناء تجارب محدودة، ظلت أغلب الجماعات، وفق تعبيره، تُدبّر ثرواتها العقارية والمنقولة بعشوائية، دون رؤية محاسباتية دقيقة أو آليات شفافة للحصر والتقييم.
الحكامة الترابية… من النص إلى الممارسة
إن ما كشفه الوزير لفتيت ليس مجرد خلل إداري، بل هو إخفاق في ممارسة الحكامة الترابية كما نص عليها الدستور والقوانين التنظيمية. فالجماعات، باعتبارها مؤسسات منتخبة، لا يمكن أن تستمر في تسيير ممتلكات عمومية دون نظام محاسباتي حديث يضمن التتبع، التقييم، والمساءلة.
الحكامة، في جوهرها، تعني التدبير الرشيد للموارد وتحقيق النجاعة والشفافية، وهو ما لا يمكن بلوغه في ظل غياب سجلات مضبوطة للممتلكات أو مرجعيات لتحديد قيمتها السوقية. لذلك فإن دور وزارة الداخلية في هذه المرحلة لا يقتصر على التتبع والمراقبة، بل يمتد إلى تحفيز الجماعات على الانتقال نحو نموذج جديد للتدبير المحلي، يجعل من المعطى المالي والإحصائي أداة لاتخاذ القرار لا مجرد وثيقة شكلية.
المنتخبون في الواجهة: من التسيير اليومي إلى المسؤولية المحاسباتية
تضع هذه الدورية المنتخبين المحليين، وعلى رأسهم الرؤساء والمجالس الجماعية، أمام مسؤولية مباشرة. فالمسألة لم تعد تقنية أو إدارية فقط، بل اختبار حقيقي لمدى وعيهم بوظائفهم التمثيلية والتدبيرية.
فمن المفترض أن يشكل المنتخبون اليوم رافعة أساسية للحكامة، من خلال تتبع تنفيذ عمليات الجرد، وضمان احترام آجال 31 مارس 2026، وتوفير الإمكانيات البشرية واللوجستيكية اللازمة لإنجاح هذا الورش الوطني.
الوزير لفتيت شدد على أن الإدارة لا يمكن أن تستمر في تحمل عبء الفوضى التنظيمية وحدها، داعيًا المنتخبين إلى تحمل مسؤولياتهم في تثمين الممتلكات الجماعية باعتبارها رأسمالًا عامًا ومصدرًا للتنمية المحلية وليس مجرد بيانات في الميزانية.
من جرد الممتلكات إلى تثمينها: طريق نحو الشفافية والتنمية
الخطوة الجديدة لوزارة الداخلية تتجاوز البعد المحاسباتي لتلامس جوهر الإصلاح الترابي، حيث تسعى إلى إرساء ثقافة جديدة في التدبير المحلي تجعل من الممتلكات الجماعية رافعة استثمارية وليست عبئًا على الميزانية.
وستُعهد إلى لجان محلية وتقنية تحت إشراف الولاة والعمال مهمة الإشراف على عمليات الجرد، مستندة إلى مرجعيتين وطنيتين أساسيتين: مديرية الضرائب والمحافظة العقارية، لضمان التقدير العادل للقيمة السوقية للأملاك الجماعية.
هذا الإجراء، بحسب متتبعين، يُعد امتحانًا حقيقيًا لمدى نضج التجربة الجماعية بالمغرب، وفرصة لإعادة الثقة في العمل الترابي، وربط المسؤولية بالمحاسبة وفق رؤية الملك محمد السادس الرامية إلى ترسيخ الجهوية المتقدمة والحكامة الجيدة كمدخل للتنمية الشاملة.
مهلة مارس 2026 التي حددها وزير الداخلية ليست مجرد موعد إداري، بل مهلة سياسية وأخلاقية لاختبار جدية الجماعات في تطبيق مبادئ الحكامة الرشيدة، وإثبات أن المنتخبين ليسوا مجرد مدبّرين مؤقتين، بل شركاء فعليين في بناء الثقة بين المواطن والدولة من خلال شفافية تدبير المال العام والممتلكات الجماعية.