عبد الرزاق القاروني/باحث صحافي
صدر للباحث أحمد متفكر، خلال الأيام القليلة الماضية، كتاب جديد موسوم بـ”مقالات ومحاضرات العلامة عبد السلام جبران المسفيوي” عن المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش في 360 صفحة.
ويأتي تاليف هذا الكتاب في إطار مشروع متفكر الفكري والبحثي، الذي يروم محاولة النبش في المصادر والمراجع عن أعلام لم يلتفت إليهم، ولم يعرف بهم، رغم ما بذلوه من جهد كل في تخصصه ومجاله، وذلك من أجل تبرئة نفسه مما قاله العلامة محمد العربي الفاسي في ديباجة كتابه “مرآة المحاسن”: “وسموا المغاربة بالإهمال، ودفنهم فضلائهم في قبري تراب وإخمال، فكم فيهم من فاضل نبيه، طوى ذكره عدم التنبيه، فصار اسمه مهجورا، كأن لم يكن شيئا مذكورا”، وكذا مما أشار إليه العلامة والمؤرخ عباس بن إبراهيم التعارجي قائلا: “إني لأتعجب من أهل مراكش بالخصوص، فهذه الخصلة هي التي كانت سببا لدفن سابقهم ولاحقهم، وغمط رفيع قدر عالمهم وفاضلهم وشاعرهم وسائر أكابرهم، ولهذا أهملهم المصنفون في التاريخ”.
وفي هذا السياق، يقول الباحث: “لقد مرت على وفاة العلامة عبد السلام جبران ما يزيد عن سبعة عشر سنة دون أن تقام له ذكرى أو ندوة من طرف كلية من كليات مراكش، خاصة كلية اللغة العربية التي درس بها لسنوات أو جمعية من الجمعيات الثقافية، وكأن الرجل لم يترك أي بصمة في المجتمع المراكشي”.
ويتضمن هذا الكتاب، إضافة إلى ترجمة للعلامة عبد السلام جبران وكلمات تأبينية في حقه، أربعة محاور، وهي: الدروس الحسنية، المقالات والمحاضرات، والوطنيات والمناسبات. وفي هذا الإطار، قام متفكر بجمع المحاضرات والمقالات التي ساهم بها هذا العلامة في مناسبات دينية ووطنية، مع إضافة بعض التعليقات الخفيفة وتخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، حتى يبقى هذا الإنتاج الفكري أنموذجا لفكر وعلم العلامة، وحتى يبقى اسمه تردده الأجيال، وتعرف أن عالما مر من هنا اسمه عبد السلام جبران المسفيوي.
ولد هذا العلامة سنة 1915 بقرية الحاجب نايت تمسولت، التابعة لقبيلة مسفيوة بأحواز مراكش، حفظ القرآن وهو ابن عشر سنوات، والتحق سنة 1935 بالجامعة اليوسفية بمراكش، ثم انقطع عن الدراسة ليشتغل موظفا بإدارة الأملاك المخزنية. وبعد ذلك، عمل بسلك التعليم بالجامعة المذكورة سنة 1939، لكن ما لبث أن فصل منها، في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، نظرا لأفكاره الوطنية، مما جعله يتعاطى لمهنة العدالة. ومع بزوغ فجر الاستقلال بالمغرب، عانق عمله، من جديد، بالجامعة اليوسفية. وبعد إحداث كلية اللغة العربية بمراكش سنة 1962، عين بها أستاذا لمادة البلاغة والأدب، ونائبا للعميد الشيخ الرحالي الفاروق، كما عين عضوا بالمجلس العلمي لمراكش. وفور وفاة هذا الأخير الذي كان يشغل منصب رئيس المجلس العلمي، عين مكانه، إلى حين وفاته، يوم الثلاثاء 22 شتنبر 1992، حيث ووري الثرى بمقبرة باب أغمات.
وفي كلمته التأبينية في حق المرحوم العلامة جبران المسفيوي، قال الأديب والمؤرخ الدكتور عباس الجراري إن الفقيد لم يمت وإن ضمه اللحد، لأنه لا يموت من أبقى العز والمجد. وفي ذات السياق، أكد المربي والباحث إبراهيم الهلالي أن هذا العلامة كان من خيرة رجال العلم والفقه والتربية والأدب والحديث بمراكش، مضيفا أنه كان يمتاز بمناقشة موضوعية هادئة، وبمنهاج تربوي رائع، يتجلى في كثير من دروسه وخطبه وكلماته وإرشاده.
ويعتبر الباحث متفكر من المؤلفين الموسوعيين وغزيري التأليف، حيث أصدر، خلال الأشهر القليلة الماضية، إضافة إلى كتابه الحالي، ثلاثة كتب، وهي: دخيل أم أثيل، والمجد الطارف والتالد على أسئلة الناصري سيدي أحمد بن خالد، وعلماء السراغنة وإشعاعهم الفكري. وعملية تأليف الكتب بالنسبة للباحث متفكر لا ينبغي النظر إليها من زاوية ربحية، فهو يبذل قصارى جهده لإخراج أعمال عدة رموز ثقافية من دائرة الظل، مضحيا بوقته وماله الخاص، ومعتبرا ما يقوم به يندرج في إطار الصدقة الجارية، وهذه خصلة من شيم العلماء الكبار، بدأت تندثر في أوساطنا الثقافية والعلمية المعاصرة.
لقد أثرى هذا الباحث الخزانة المغربية بتصانيف متنوعة ومختلفة، تتراوح بين التأليف والتحقيق والجمع والتعليق، وتندرج ضمن العلم النافع، الذي يجعل صاحبه يستفيد من حسناته في الحضور والغياب. كما أسدى خدمات جليلة للوطن، من خلال سبره أغوار ثقافته المنسية والعميقة للكشف عن مكنوناتها التي كاد أن يطالها النسيان إلى ما لا نهاية.
وفي الختام، نقول، على لسان الباحث متفكر في هذا الكتاب، بأن هذا المصنف هو عصارة فكر الفقيد ونفثات قلمه، مهداة لروحه الطاهرة في عالم الأقداس، عربون وفاء وإخلاص، ودعاء صادق للمولى جلت قدرته أن يجازيه أحسن الجزاء على ما قدمه للدين والفكر ووطنه المغرب.