د. سالم الكتبي
جاء خطاب الملك محمد السادس، نصره الله، للشعب المغربي، بمناسبة عيد العرش، شاملاً لكل شواغل السياستين الداخلية والخارجية للمملكة الشقيقة، حيث تحول هذا الخطاب السنوي إلى مناسبة وطنية مهمة للتواصل بين الشعب والقيادة، يتم خلالها استعراض المشهد المغربي، داخلياً وخارجياً، بالصراحة والشفافية التي اعتادها جلالته في علاقته بشعبه، وهو ماحرص الملك على الاشارة إليه في مقدمة خطابه بالتأكيد على أن الاحتفال بعيد العرش “يمثل أكثر من مناسبة للاحتفال بذكرى جلوسنا على العرش، فهو يجسد روابط البيعة المقدسة، والتلاحم القوي، الذي يجمع على الدوام، ملوك وسلاطين المغرب بأبناء شعبهم، في كل الظروف والأحوال”، لذا فقد جاء الخطاب منذ بداياته قوياً مليئاً بالمعاني والدلالات والرغبة العميقة في الانطلاق من ثوابت “الحالة المغربية”، التي حرص جلالته على الاشارة إليها في صدارة خطابه، مؤكداً أن “المغرب دولة عريقة، وأمة موحدة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ. والمغرب قوي بوحدته الوطنية، وإجماع مكوناته حول مقدساته، وهو قوي بمؤسساته وطاقات وكفاءات أبنائه، وعملهم على تنميته وتقدمه، والدفاع عن وحدته واستقراره”، وهي سمات اعتبرها الملك محمد السادس بمنزلة “رصيد بشري وحضاري متجدد ومتواصل”، يلعب الدور الأساسي في مواجهة التحديات وتجاوز الصعوبات التي واجهت المملكة قديماً وحديثاً.
وكانت لفتة الشكر التي وجهها جلالته للفاعلين في القطاع الصحي ولجميع السلطات والجهات ذات الصلة بمواجهة تحدي وباء “كوفيد 19″، كانت انعكاساً واضحاً لاهتمام جلالته بهذا الموضوع الحيوي، الذي بات يمثل متغيراً حيوياً في مختلف القرارات والسياسات بما أفرزه من تحولات كبرى في أحوال الدول والعلاقات الدولية في مختلف المجالات. وقد جاءت كلمات الخطاب الملكي في هذه الجزئية منتقاة بدقة شديدة، وتحمل رسائل محددة لا تقتصر على توجيه الشكر للفاعلين في القطاع الصحي والأمني، ولكن أيضاً تحمل تأكيداً على مشاركة القيادة لشعبها هذه المرحلة الصعبة على الجميع، وهنا لابد من الاشارة إلى حرص الملك على اعلاء مبدأ المساواة بين شعبه وأسرته في مواجهة هذا التحدي، عاكساً أحد أهم قيم الحكم في المملكة الشقيقة، وهي قيمة المشاركة، باعتبارها ركيزة أساسية من ركائز المجتمعات القوية المتماسكة القائمة على العدل والمساواة والتكافل بين الأفراد.
اعجبني في حديث الملك محمد السادس، نصره الله، بشأن وباء “كوفيد ـ19” ماانطوي عليه الحديث في هذا الملف من فكر استراتيجي عميق، حيث شمل جلالته مجمل جوانب هذا الملف بمفهوم “السيادة الصحية”، باعتبارها “عنصراً أساسياً في تحقيق الأمن الاستراتيجي”، ما يعكس وعي القيادة المغربية الرشيدة بالتحولات الكبرى التي أحدثها تفشي هذا الوباء في منظوم الفكر الاستراتيجي للأمن الوطني للدول فضلاً عن هياكل العلاقات الدولية، حيث باتت السيادة الصحية بالفعل أحد أهم أولويات السيادة الوطنية للدول كافة، وأصبح ضمان الأمن الصحي موازياً لأولويات وطنية أخرى للدول ظلت عقوداً وسنوات طويلة تتصدر الاهتمامات وتحظى بنصيب الأسد من الانفاق والموازنات العامة بعد أن كشفت الجائحة أن أولوية الأمن الصحي والسيادة الصحية للدول لا تقل في حسابات الأمن الوطني عن الأمن في أبعاده العسكرية والاقتصادية والمائية والغذائية والسيبرانية وغير ذلك.
اعجبني كذلك حديث جلالته عن “مجهود وطني جماعي” في مختلف المجالات، ومنها الاقتصاد، عاكساً رؤية ثاقبة تحرص على حشد الصفوف في منظومات العمل الوطني من خلال حفز الطاقات الفردية وتشجيع الجميع على الانخراط في مسيرة العمل الوطني، لاسيما أن المملكة على مشارف مرحلة تنموية جديدة تنطلق من نموذج وطني شاركت فيه مختلف القوى الفاعلة، وطوائف المجتمع المدني، بحيث بات تنفيذه مسؤولية وطنية تتطلب مشاركة كل طاقات وكفاءات الأمة المغربية كما قال جلالته، وصولاً إلى تحويل “الميثاق الوطني من أجل التنمية” كي يصبح قاطرة استراتيجية للتنمية في القرن الحادي والعشرين، ويؤسس لما أسماه جلالته في خطابه بثورة جديدة للملك والشعب، وهي ثورة هادفة إلى التنمية والبناء ورسم مستقبل أفضل للأجيال المغربية المقبلة.
خارجياً، ركز الخطاب بشكل حصري على تجديد لدعوة العاهل المغربي للأشقاء في الجزائر “للعمل سوياً، دون شروط، من أجل بناء علاقات ثنائية أساسها الثقة والحوار وحسن الجوار”، ولفت جلالته إلى أن واقع العلاقات المغربية ـ الجزائرية “لايرضينا وليس في مصلحة شعبينا وغير مقبول من طرف العديد من الدول”، متجهاً جلالته بعد تشخيص الداء إلى تحديد الدواء معبراً عن قناعة جلالته بأن الحدود المفتوحة هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين وشعبين شقيقين، وهو موقف يتماهى مع رؤى جلالته للعلاقات مع الجزائر بشكل عام، سواء من حيث علاقات الأخوة أو في إطار القانون والمواثيق الدولية التي تنص على ضرورة ضمان حرية تنقل الافراد والسلع والخدمات بين الدول.
ولعل إشارة جلالته إلى نفي مسؤولية القيادات الحالية في البلدين عن واقع الاغلاق الحدودي بين المملكة المغربية والجزائر ينطوي على رسالة ذكية تشجع على تبني مبادرة جلالته التصالحية، وتضع الجميع ـ في الوقت ذاته ـ أمام مسؤولياتهم التاريخية والشعبية حال توافر الإرادة السياسية اللازمة لتغيير هذا الواقع لمصلحة البلدين والشعبين، لاسيما أن نفي مسؤولية القيادة الجزائرية الحالية والسابقة عن هذا الواقع قد ارتبط بالتأكيد على أن الجميع يتحملون الآن مسؤولية سياسية وأخلاقية عن استمرار هذا الواقع “لاسيما أن الأسباب التي كانت وراء اغلاق الحدود، أصبحت متجاوزةـ ولم يعد لها اليوم أي مبرر مقبول”.
مبادرة القيادة المغربية لفتح صفحة جديدة مع الجزائر ليست ككل المرات السابقة، بل جاءت هذه المرة أكثر ودية وانفتاحاً وتحمل لغة واقعية وتطوي صفحة الماضي تماماً ولا تتبنى أي مواقف أو شروط مسبقة، بل تؤكد على مبدأ الأخوة، وتفند بالمنطق والعقل كل رأي يعارض مبادرة التقارب، من خلال حديث هادىء يحفظ للمغاربة كرامتهم وعزتهم ويرفض كل صورة ذهنية سلبية تُروج عنهم، ويمد الأيدي لأشقاء حرص الملك محمد السادس على ترسيخ مبدأ حسن النوايا وإعلاء روابط الأخوة معهم حينما قال “ما يمسكم يمسنا ومايصيبكم يضرنا”.
المبادرة لم تقتصر هذه المرة إذاً على الدعوة لطي صفحة الماضي، ورغبة في انهاء التوترات الاعلامية “المأسوفة”، والتي أكد الملك محمد السادس أنها “تسىء لصورة البلدين وتترك انطباعاً سلبياً”، ولكنها تضمنت مبادىء وأسس يفترض أن تدرس بوعي ودقة من الجانب الجزائري، فالأمر قائم على أسس واضحة في مقدمتها التأكيد على ضمان أمن الجزائر واستقرارها باعتبارها “من أمن المغرب واستقراره”، والعكس صحيح، ترجمة لمبدأ “الجسد الواحد” بحكم تلاقي التحديات التي تواجه البلدين.
المبادرة المغربية العقلانية القائمة على تغليب منطق الحكمة والمصالح العليا من أجل تجاوز “الوضع المؤسف”، في العلاقات المغربية ـ الجزائرية، والذي يهدر طاقات البلدين ويتنافى مع روابط الأخوة بين الشعبين، تضع الجميع أمام حقائق واضحة تتطلب قرارات نوعية لتغيير واقع العلاقات بين بلدين شقيقين.