رغم أن الأخطبوط قد ينمو ليصل إلى أحجام عملاقة ( 18 مترا أي ما يعادل بناء بست طوابق)، فإن ما تحكيه عنه الأساطير والخرافات وتعززه بعض الانتاجات السنيمائية، من أنه مفترس وأنه يهاجم السفن قد تخفي البعد الجمالي المثير في حياة أحد أغرب الكائنات البحرية.
وهذا المخلوق الذي نسجت حوله القصص التي حولته إلى وحش غادر، يقدم ميزات مثيرة، سواء في قدرة خلاياه على التجدد، أو في دورته الدموية التي تنظمها ثلاثة قلوب تضخ دمه الغني بالنحاس إلى مختلف جسمه، او أدرعه الثمانية المجهزة بـ 240 شفاطة أو “فم لاصق” والتي يمكن أن تنمو مجددا إذا تعرضت للبتر، أو حياته الجنسية التي تتم فيها العلاقة الجنسية بين الزوجين عبر مسافة، …
لكن أكثر ميزاته إثارة لفضول العلماء مند 24 قرنا من الزمن، هي قدرته الفائقة على التمويه والتخفي، ورغم كل هذه المدة الطويلة في الاهتمام العلمي بهذا المخلوق ما يزال أحد أهم ألغاز التمويه عنده مجهولة إلى اليوم.
فما هي أسرا قوة تمويه الأخطبوط؟ وما هو اللغز الذي بقي محيرا للعلماء؟
ذكر تقرير، نشر على موقع “لايف ساينس” (Live Science)، حسب الجزيرة نت، أن إتقان الأخطبوط للتمويه أربك الباحثين منذ بداية العلم نفسه. فمنذ حوالي 2400 عام، قام أرسطو، الفيلسوف اليوناني القديم، الذي غالبا ما يُعد أحد الآباء المؤسسين للعلم الحديث، بتدوين الملاحظات التفصيلية لتمويه الأخطبوط. وهو أول شخص معروف يفعل ذلك.
وحسب نفس المصدر، على الرغم من أن تمويه الأخطبوط تمت دراسته ومراقبته لقرون، فإنه في العقود القليلة الماضية فقط مكّنت التكنولوجيا المتطورة الباحثين من تفكيك المكونات الفردية لتمويه رأسيات الأرجل كالأخطبوط والحبار وغيرهما وبدؤوا الآن في فهم كيفية عملها.
مع العلم أنه لا يُسمح للباحثين بإجراء التجارب على رأسيات القدم وهي على قيد الحياة بسبب ذكائها، إذ يمكنها أن تحل المشاكل المعقدة، كما أنها تستخدم الأدوات وتشعر بالألم. وقد تم اقتراح إدراج الأخطبوطات والحبار بوصفها كائنات واعية في المملكة المتحدة.
كيف يتغير لونه؟
تقول ليلى ديرافي -عالمة الكيمياء الحيوية في “جامعة نورث إيسترن” (Northeastern University) بولاية ماساشوستس التي تدرس ميكانيكا تمويه الأخطبوط- لموقع لايف ساينس، يمكن للأخطبوط أن يغير درجات الألوان لأن لديه حوامل “كروماتوفور” (Chromatophores)، وهي أعضاء صغيرة متغيرة اللون تنتشر في جميع أنحاء جلد الأخطبوط.
ويوجد في قلب كل حامل “كروماتوفور” أكياس صغيرة مليئة بجسيمات نانوية من صبغة تسمى “زانثوماتين” (Xanthommatin). وهذه الأكياس الصبغية محاطة بمصفوفة مرنة ترتبط بدورها بخلايا العضلات التي تحيط بالكيس في شكل نجمة مدببة.
وعندما تنقبض هذه الخلايا العضلية، يتمدد كيس الصباغ، مما يسمح بدخول المزيد من الضوء إلى الخلية وينعكس على جزيئات الزانثوماتين. ونظرا لأن الزانثوماتين يمتص أطوالا موجية أو ألوانا معينة من الضوء المرئي، فإن الضوء الذي ينعكس مرة أخرى من الكروماتوفور هو لون مختلف مقارنة بالضوء الذي دخل الخلية لأول مرة.
وتوجد 3 طبقات من الكروماتوفور في جلد الأخطبوط، كل طبقة بها جزيئات زانثوماتين تعكس لونا مختلفا، حيث تنتج الطبقة العليا لونا أصفر، وتعكس الطبقة الوسطى لونا أحمر، وتنتج الطبقة السفلية لونا بنيا. ويمكن أن يدمج الأخطبوط هذه الألوان في كل طبقة، مما يمكّن رأسيات القدم من إنشاء مجموعة واسعة من الأشكال.
ويتم التحكم في كل حامل كروماتوفور بشكل فردي، مع العلم أنه قد يكون هناك عشرات الآلاف أو حتى الملايين حسب حجم النوع، وذلك من خلال إشارات عصبية مباشرة من دماغ الأخطبوط تتسبب في تقلص العضلات المحيطة بالكيس أو الاسترخاء، وبالتالي تغيير شكلها.
ليست الهياكل الوحيدة
لا تعد الكروماتوفورات الهياكل الوحيدة المشاركة في تغيير اللون، إذ يمكن أن تساعد الأعضاء الإضافية، المعروفة باسم “إيريدوفورس” (iridophores) و”ليوكوفورس” (leucophores)، الموجودة في جلد أنواع معينة من الأخطبوط في تحسين أو تغيير الألوان التي تنتجها.
وفي حين أن إيريدوفورس تعد أكبر قليلا من الكروماتوفورات وتساعد على خلق ألوان أكثر إشراقا وألوانا معدنية للأخطبوط، فإن ليوكوفورس متشابهة في الحجم مع الكروماتوفور، ولكنها تحتوي على أصباغ بيضاء متخصصة بدلا من الزانثوماتين، التي تشتت أو تكسر الضوء وتساعد في التحكم في التباين وسطوع الألوان.
ويمتلك الأخطبوط أيضا آلات في الجلد تساعده على تغيير نسيجه، مما يضيف طبقة أخرى للتمويه. فهو لديه نتوءات صغيرة تسمى الحليمات يمكن لاسترخائها أن يجعل الجلد أملسا مثل الأعشاب البحرية، أو تنقبض مما يجعل الجلد متكتلا وخشنا مثل الصخور، ويتم التحكم في هذه الحليمات أيضا عن طريق إشارات عصبية من الدماغ.
الأسرع في تغيير لونه
وتعتمد العديد من الحيوانات على التمويه، لكن الأخطبوط له وضع مميز بشكل خاص، ويرجع ذلك إلى السرعة والدقة التي يمكن الانتقال بها بين الألوان المختلفة. وهو يفعل ذلك خلال جزء من الثانية أو أسرع من غمضة عين. في المقابل، يمكن أن تستغرق الحرباء عدة ثوان إلى أكثر من دقيقة لتغيير لونها تماما.
تقول ديرافي إن الأخطبوطات يمكن أن تحدث تغيرات سريعة في اللون لأن “دماغها مرتبط بعمق بسطح الجلد”؛ فهي لديها آليات الإشارات السريعة التي تمكنها من قول “تشغيل هنا” و”إيقاف التشغيل هناك” في جميع أنحاء الجسم.
السبب الرئيسي لهذا الترابط بين الدماغ والجلد هو أن دماغ الأخطبوط، على عكس معظم أدمغة الحيوانات الأخرى، لا يقتصر على منطقة واحدة مثل الرأس فهو له “جيوب دماغية” أو عُقد في جميع أنحاء جسده وفي جميع أنحاء أذرعه . ويعتقد الباحثون أن هذا يُمكن أذرع الأخطبوط الفردية من أن يكون لها عقل خاص بها، الذي يمكن أن يلعب دورا في تغيير اللون.
تقول ديرافي كذلك إن الأخطبوطات تحتوي أيضا على عدد أكبر من الكروماتوفورات لكل بوصة مربعة من الجلد مقارنة بالحبار على سبيل المثال، مما يساعدها على إنشاء أنماط فائقة الدقة مقارنة برأسيات القدم الأخرى.
لغز لم يتم حله حتى الآن
لا يزال هناك لغز رئيسي واحد لم يتم حله يحيط بتمويه رأسيات القدم، وهو كيفية تمكنها من مطابقة لون جلدها مع لون محيطها على الرغم من أن غالبية الأخطبوطات ورأسيات القدم الأخرى مصابة بعمى الألوان.
وفقا لورقة بحثية نُشرت عام 2020 في مجلة “فرونتيرز إن فيزيولوجي” (Frontiers in Physiology)، فإن عيون الأخطبوط لديها نوع واحد فقط من المستقبلات الضوئية، وتحول الخلايا الضوء إلى إشارات عصبية، مما يعني أنها تستطيع فقط اكتشاف الاختلافات في كثافة الضوء، في حين تحتوي عيون الإنسان -على سبيل المثال- على 4 أنواع من المستقبلات الضوئية.
أحد التفسيرات المحتملة هو أن عيون الأخطبوط قادرة على رؤية اللون بدون مستقبلات ضوئية. وقد افترضت دراسة نشرت عام 2016 -في دورية “بيوفيزيكس آند كومبيوتيشنال بيولوجي” (Biophysics and Computational Biology)- أن هناك أنواعا إضافية من المستقبلات في عيون الأخطبوط غير مألوفة لنا قد تمكّن -بدورها- رأسيات القدم من رؤية الألوان بطريقة مختلفة عن البشر والحيوانات الأخرى.
هناك أيضا نظريات مفادها أن مستقبلات الضوء في الجلد يمكن أن تساعد الأخطبوطات في مطابقة الألوان من حولها. كما أظهرت الدراسات السابقة أن أذرع الأخطبوط يمكن أن تتفاعل مع التغيرات في شدة الضوء عندما لا يستطيع الأخطبوط الرؤية. ومع ذلك، لا يوجد دليل حتى الآن على أن هذا يساعدها على رؤية الألوان.
تقول ديرافي إن فهم المزيد حول كيفية تغيير لون الأخطبوطات يعد أمرا صعبا للغاية؛ لأنه لا يُسمح للباحثين بإجراء التجارب على رأسيات الأرجل وهي على قيد الحياة.
لماذا يحتاج الأخطبوط إلى التمويه؟
على الرغم من أن آليات تمويه الأخطبوط لا تزال قيد البحث، فإن العلماء لديهم فهم أفضل بكثير لسبب تغير لون هذه الحيوانات الرائعة.
تقول جينيفر ماثر -عالمة النفس المتخصصة في سلوك رأسيات الأرجل في “جامعة ليثبريدج” (University of Lethbridge) في كندا- للايف ساينس “الأخطبوطات ليس لها حماية خارجية وبالنسبة إلى أي حيوان مفترس، فإن الأخطبوط هو حزمة غير محمية من البروتين، مما يعني أن كل كائن في المحيط يسعى للحصول عليها”. لذا مكن الله الأخطبوط من تطوير طرق تمويه تجعله غير مرئي.
وإضافة إلى عدم ملاحظتها من قبل فرائسها، يمكن للأخطبوطات أيضا استخدام عروض الألوان المذهلة لاصطياد فرائسها، بعدما تكسر التمويه وتصعق فرائسها بتحولات جذرية وسريعة في اللون قبل محاصرتها بسرعة.
وفي عام 2019، التقط العلماء لقطات فيديو لأخطبوط تُدعى “هايدي” وهي تغير ألوانها في أثناء نومها، مما أثار تكهنات بأن الأخطبوط قد يتغير لونه أيضا عندما يحلم. وكان الباحثون قد حددوا دورات نوم شبيهة بدورات نوم الإنسان لدى الأخطبوط، لكن ليس كل الباحثين مقتنعين بأن تغيرات اللون يمكن وصفها بالتأكيد على أنها حلم، حيث إنه من المستحيل تماما معرفة كيف تحلم الأخطبوطات.