عبد اللطيف سندباد*
ينتابني قصف رهيب لم يسبق له مثيل في حياتي، ضيف فوق العادة، نوبات من الدوار لثوان قصيرة كافية لفقدي التوازن وإصابتي بالإعياء العام … فما كان مني إلا أن امتهنت خلوةَ الصمت، ومواجهة اللاشيء في العديد من المواقف، وإن ببعض الاستثناءات الصاخبة، وصفات اتبعتها للتحسن الذاتي، وأخرى بين ممرات المستشفيات والعيادات والمختبرات الطبية، بحثا عن الشفاء من المجهول الذي لازالت أعراضه عالقة بذاتي. يقذفني التشاؤم الطبي تارة إلى الجهاز العصبي وأخرى إلى القلب والشرايين، إلى الطب الباطني… إلا أن ما آلمني وغاص في أعماقي أكثر حالتي النفسية، كانت قلقة لاروح فيها، وهي تحكي لي كما لو كانت ضحية جسد وعقل ونمط اشتغالهما، لم يتطلب كثيرا لكي تجعل نفسي من حالها تسير على نحو أفضل، فبمجرد أن خلدت إلى السكون، غدا الامر صحيا، وإن كان بوسعها ان ترقى إلى تفاؤل مضاعف، وبدت نفسي تدفع بي خارج تفاعلات العقل والجسد، وتهزني إلى مضايق الراحة وسعة التحسن الداخلي، إحدى نزولاتها كانت لما استدعتني مقاهي الشريفية بمراكش الحمراء ذات قيض حر الصيف، حيث ما إن نزلت سحرها، حتى استبد الضيف شراييني من جديد، تمايلت يمنة ويسرة، دار العالم من حولي، أهواني هذا الدوار اللعين على صدر كرسي فارغ، توليت عرشه على مكث، التقطني دون استئذان أو مبالاة، أمَّنني الكرسي، ومنحني راحة ممتدة من هذا الدوار إلى أن تخفف أثره، وأيقنت نفسي أني الآن على الكرسي، هنا قاعد طلبا للراحة والسلام، محاط بشجيرات وزهور الدفلى والحجر، والاصاصيص جاثمة على الربى، والنخل طلعه هضيم، يستظلني من الشمس الحارقة، وأنا موجود ضمن فضاء أرحب وسط مجموعة من الذبذبات التي تسترق سمعي من مجمعات بشرية تدنو من مجلسي، أصوات طوابير المركبات بين الفينة والاخرى تخرق جدار صمت الاخضرار، حيث تتلاقى مع أصواتي الهاجعة في داخلي من أثر الدوار وتداعياته المضرجة بالذاكرة وما احتوته من قريب وبعيد، كما هي مفتوحة على مستقبل يعد بالكثير من المجهول، ألم لا ينتهي، وتشظي عقلي جعلني أسوء مجنون صادح بصوت داخلي ممزق، حيران أطلق العنان للأفكار للسفر ضمن متون الذاكرة وآفاق الغد، أحاول ممارسة الضبط النفسي للحالة الممزقة التي أحياها، وأنا أفكر، وأنا أوجد قاعدا على كرسي خشبي، يجرني إليه، يجذبني إلى حاضره، ويؤنسني بسواكن أحاديثه، يلوِّح لي بالاستماع به ومن خلاله لما حوله، ويأبى عقلي إلا أن يعصي له أوامره، فيخفت الكرسي في حاضره في عناد رهيب، ويستعبدني العقل بكل قيوده.
قطة سيّاميّة سوداء اللون مرتخية تحت ظلال الكرسي، تستسلم للغتها الناعسة، وترمي في جوف راحتها كل الأسماء، قديسة الحيوانات تقرر المواء لي هي الاخرى، بعيش اللحظة، طاب لها التربيت على كتفي لإعانتي على إخماد التفكير في وهم الدوار وتداعيات الأشكال والهموم، تحاورني بابتسامة لطيفة، وتهديني قبلة واحدة على مستوى الحاضر، كما تصيبني مخالبها بطعنتين؛ الاولى على مستوى الذاكرة والثانية على مستوى الحياة الآتية، أحببت هذه الهرة من بين هرات العالم، فقد آنست وحدتي، وأفاضت عليّٓ من الحنان والتوجيهما لم يوجد في غيرها، خصوصا بعدما حملت سلاح المواء الخفيف والهادي لمواجهة استسلامي لحملي البائس، وأرشدتني بذبذباتها الساكنة لمَّا ضاق مواؤها إلى ترك كل الآلام، وأشارت لي بشواربها الطويلة في حوار مونولوجي أنَّ كل ما يحيط بك من عناصر الوجود من هواء ونبات وحيوان وجماد وتربة وماء … ينعم ” الآن ” و ” هنا ” أمامك بعامة أحيازه الحاضرة، باستثناء أصوات بشرية هنا وهنالك قريبة منك مرتمية في أسراب زمنية تستنزف الطاقات، وتخوض مع الخائضين، ولا تنتج إلا البؤس والتعاسة التي لا تقدر ولا تحصى، وهي سبب دوارك وتخييلاتك وأمراض أخرى محتملة لبني البشر.
انتفضت كثيرا لعذوبة وحكمة القطة السوداء، واعترتني إرادة قوية مدعومة بتفكير حالم لعيش اللحظة الراهنة، وأدركت أن ليس من الهين أن تَحيى على نحو أفضل في الحاضر، لأن ذلك يتطلب القيام بتداريب وسلوك مدارج صارمة لإيقاف حالة الاكتساح العقلي للكينونة والتواجد حيث أنا الآن هنا جالس على كرسي السكينة ومواء الاتحاد مع صوت الحيوان، أباشر التفكير بكل القبعات، أستعير الأخيرة للرحيل سلبا وإيجابا، حيادا وإبداعا، هيمنة وإحساسا، أتلمس الكلمات وما خلفها من بلاغات، أتدفق خيالات الصور جيئة وذهابا.
الفراغ بدوره يكرهني على العيش ضمن جغرافيته، وضمن خرائط المجتمع، يَحضُنني بتجرد خالص ومنفتح، يدعوني إلى الانفصال عن فعل الوهم، أو استخدام العقل على نحو خاطئ، يمكِّنني من شحنه بذبذبات الأزمنة المتكاملة للوفاء الجيد للزمن الراهن، والفراغ تخلية للعقل، وتفريغ للزمن مع الحضور، وهو أيضا تحلية للنفس على سبيل الانصات لصوتها الداخلي، والانتقال بعمق إلى ” الآن ” للتخابر مع كرسي السكينة، يحُثُّني الفراغ إلى التحرر من آلة التفكير العقلي، الفراغ رحمة محسود عليها، وقدوة تطهيرية للنفس جذيرة بالتأمل والاستنارة، ليس الفراغ حيزا سلبيا للاعمال الوحشية، أو ملاذا للموتى، أو وعاء خداعا، أو دليل عدم، بل هو محضِن لإنفاق الوقت على نحو إيجابي، والعيش في مجموع اللحظات الراهنة والاتحاد بالحقيقة، الفراغ حالةُ وجود في الحاضر، ومعاصرةٌ لكل حجاب، لا يرتقي لخرقه إلا من طرح التطابق مع العقل، وامتهن الوصل خارج حدود أفعال العقل المحدودة والنسبية والاسترقاقية، إنه فرصة إيجابية لبلوغ سلم عالم الحنين للكينونة، والاحساس برباب الوجود في تناغم صوفي لا شكل له، بل جوهره ما ” أنا ” عليه من حضور مع الفراغ والكراسي والقطط وباقي عناصر الطبيعة المذكورة آنفا.
لحسن حظي اليوم، وأنا مستعد لاقتحام حالة ” الحضور “،ووضعي ” الآن ” ينزلق إلى اللحظة الراهنة، لحظة الكتابة، بكل عشق ونهم، من خلالها تمكنت باستحضار كل عناصر المحيط حولي، أن أركب نسغ سفينة النجاة، واستعادة الوعي بحقيقة روحي الساكنة بداخلي، والتحرر من عقبات استدعاء جدلية المعاني والمباني، وسلطات إحضار الالفاظ والدلالات السحيقة في تجارب الكينونة والانفتاح على الغد الموهوم.
لم يكن من السهل المرور إلى عيش اللحظة الراهنة، إلا بعد إصرار عنيد مع المحيط الخارجي، ومعاناة شقية مع جراحات الداخل. وأن تستسلم لحالة النفس في صفائها ونفختها الروحانية اشتغال غير يسير وممتد على تطوير الذات، ويتطلب أيضا كشفا خاصا يتجاوز الأطر المعتادة في عمليات التفكير، ويتفادى استراتيجيات العقل في تعقله للمحيط وما يثيره من استدعاءات. إن الإقامة بكرسي السكينة نور، ونور النفخة حكمة فوق بشرية، وإنجاز ما ورائي، لا يعطى لعبَّاد العقل، وهيمنة تعدد الأصوات، والتناص مع مرجعيات حكائية أو عجائبية، إن هذه الإقامة تناقض التطابق العام مع مبادئ العقل، وتدعو إلى حالة التوازن في استعمال أطره ) الهوية، التناقض، الثالث المرفوع )، والابتعاد عن الغوص في الوهم والصراع لأجل كل ما هو جميل، وحاضر في ” الآن ” ومن أجل ” الآن “.