سالم الكتبي
لا يختلف اثنان على أن التطرف والارهاب يمثل خطراً داهماً ليس على الدول غير الاسلامية فقط بل أيضاً على الدول والشعوب الاسلامية، حيث يمثل المسلمون نحو 80% من ضحايا الاعتداءات الارهابية التي يشهدها العالم سنويا بحسب الاحصاءات والدراسات، كما أن الدول الاسلامية وتلك التي يمثل المسلمين نسبة كبيرة من سكانها، تحتل المراتب الأولى في قائمة الدول المتضررة من الأنشطة الاجرامية للارهابيين والمتطرفين.
علينا بالأساس كبداية لأي نقاش موضوعي، أن نقر بأن التطرف ليس له دين ولا جنسية أو لون أو عرق، فوسط طوفان جرائم ارتكبها ارهابيون ينتمون للإسلام في دول عدة، وقع عشرات المصلين المسلمين ضحايا أبرياء في مدينة “كرايست تشيرتش” بنيوزيلندا منذ نحو عام تقريباً، ولم يقل أحد هنا أو هناك أن ذلك المجرم المتطرف يمثل ديناً معيناً، وبالتالي فإن الأمر يتطلب تعاوناً وتضامناً ورؤية مشتركة لمصادر الخطر وسبل التعامل معها والقضاء عليها.
في ضوء ماسبق، يبدو الجدال المحتدم في أوساط مختلفة حول الموقف الرسمي الفرنسي حيال الاسلام والمسلمين، بمنزلة هدية مجانية لتنظيمات التطرف والارهاب التي تجيد السباحة والتجديف في مثل هذه الأنواء، وتوظيفها في جذب الشباب نحو الأفكار التي تروج لها، ولاسيما ما يتعلق بعداء الغرب للإسلام واستغلال ذلك في الوقيعة واقناع الشباب ليس في العالم الاسلامي فقط، بل داخل الدول الغربية ذاتها سواء من أبناء المسلمين المهاجرين وتحديداً من الجيلين الثاني والثالث، أو غيرهم ممن يسافرون للغرب للدراسة والعمل وغير ذلك، بارتكاب جرائم ارهابية يدفع ثمنها ويتحمل عواقبها الجميع، مسلمين وغير مسلمين.
ولاشك أن الجريمة التي اهتزت لها مشاعر الملايين داخل فرنسا وخارجها، والخاصة بذبح مدرس تاريخ في مدرسة اعدادية بقرية فرنسية هادئة على يد شاب لاجىء من أصول شيشانية يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، هي جريمة مدانة ومروعة ربطها البعض بما تنشره صحيفة “شارلي إيبدو” من رسوم مسيئة للرسول الكريم (صلي الله عليه وسلم)، بينما ربطها آخرون بتصريحات الرئيس الفرنسي ايمانول ماكرون حول ما وصفه بـ”الإسلام السياسي المتطرف”، ووصفه لتلك الجرائم بأنها “عمل إسلامي متطرف”، هذه الجريمة هي ترجمة واضحة للفكر الارهابي المتطرف، الذي تسبب في مئات الاعتداءات والجرائم التي عاني منها العالم طيلة العقد الأخير، ولكن الإشكالية التي تثير الجدل تبقى في تفسير وفهم الجريمة وربطها بالدين الاسلامي الحنيف، وحدود هذا الربط، فالمؤكد أن كثير من المتجادلين ـ عدا هؤلاء المنتفعين والانتهازيين من تنظيمات الارهاب ومروجي الفكر المتطرف ـ يتفقون على إدانة الارهاب ورفضه، ولكن الربط بين الظاهرة الارهابية والدين الاسلامي الحنيف ومحاولة الصاقها به هو محور وجوهر الخلاف.
شخصياً، لا اعتقد أن بناء تفاهم حول ضرورة الفصل بين الدين الاسلامي والارهاب، مسألة خلافية أو صعبة أو معقدة في حال خلصت النوايا ولم يكن هناك حالة تربص أو تنمر سياسي بالاسلام والمسلمين بشكل عام كما هو الحال بالنسبة لليمين المتطرف في أوروبا. وقناعتي أن هناك مخاوف أوروبية حقيقية من تفشي الفكر المتطرف بين أبناء الجاليات المسلمة في هذه البلاد، وكذلك بين شريحة ما من اللاجئين، وهي مخاوف مشروعة ومبررة في ضوء المؤشرات القائمة، ولكنها بالمقابل لا تدعو مطلقاً للتعميم وإشاعة الخوف من الاسلام والمسلمين، ولذا من الضروري بل ومن الأفضل للعالم وللغرب بشكل خاص مراعاة الخيوط الدقيقة الفاصلة بين اتهام متطرفين محسوبين على الدين الاسلامي، أو يرفعون رايته ويزعمون ـ زوراً وبهتاناً ـ الدفاع عنه، وبين الاسلام الحنيف، هذا الدين السماوي القائم على الرحمة والتسامح والتآخي والعدل والاحسان، وذلك تفادياً لنشر الإسلاموفوبيا التي لا تقل خطراً عن الارهاب والتطرف، وتتسبب في نشر حالة من الارهاب والارهاب المضاد وسقوط المجتمعات الآمنة في فخ الفوضى والعنف والارهاب، وبالدرجة ذاتها علينا أن ندرك أيضاً أن الإساءة للأديان تحت شعار حرية التعبير هي “دعوة صريحة للكراهية” كما قال فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين.
ثمة خيط رفيع أيضاً حين نتحدث عن جريمة ارهابية بين وضعها في إطارها الفكري والمنهجي والمرجعي الصحيح، وبين استغلالها لوصم الدين الاسلامي بالارهاب، فلا يصح اتهام أي دين سماوي بالارهاب في حال ارتكب أحد المحسوبين عليه جريمة منبوذة تتعارض مع الانسانية والآدمية وليس مع المبادىء الدينية فقط، لأن هذا المجرم ـ ببساطة شديدة ـ يبقى واحداً فقط من بين نحوملياري مسلم يمثلون نحو 25% من سكان العالم، لأن التعميم في هذه الحالة كارثة كبرى يمكن ان تفتح باب الشرور وجحيم صراع الأديان والحضارات على مصراعيه، وينبغي أن تكون التفرقة والفواصل هنا واضحة لتفويت الفرصة على المتآمرين والمتربصين بهذه الدول وبالعالم الاسلامي ذاته من تنظيمات تتاجر بالدين الاسلامي وتستغله أسوأ استغلال في تحقيق مآرب سياسية طالما تغاضت عنها بعض عواصم الغرب حين كانت هذه التنظيمات بعيدة عن التطرف العنيف وتسعى لنيل الدعم السياسي الغربي، ومن أجل القفز إلى كرسي الحكم في دول عربية وإسلامية عدة، وعلينا في المقابل، كمسلمين، أن ندين أي فكر أو عمل ارهابي مهما كان ضحاياه أو الهدف الذي ارتكب من أجله، وأن نعلن بوضوح رفضنا لأي فكر ارهابي متطرف.
وارتباطاً بما سبق، اعتقد أن حديث الرئيس الفرنسي ماكرون في أوائل أكتوبر الجاري عن أن “الدين الاسلامي حول العالم يمر بأزمة”، قد لا تكون موفقة في ألفاظها، وتعبر عن الإشكالية التي أشرت إليها سالفاً، وهي ضرورة الفصل بين التابع والمتبوع، أو الدين والأتباع؛ ولكنها مع ذلك، وبنظرة موضوعية هادئة، لا تسىء للدين الحنيف في شىء، فالأرجح أنه يقصد واقع أمتنا الاسلامية، ولا علاقة لذلك بماضيها وحضارتها ومبادئها، فهو يتحدث كسياسي لا كرجل دين؛ وقراءة نص خطاب الرئيس ماكرون كاملاً تشير إلى أن يقصد تنظيمات الاسلام السياسي التي تنشط كدولة داخل الدولة الفرنسية، وتؤلب أبناء الجاليات المسلمة ضد ثوابت ومبادىء الدولة التي اختاروا أن يعيشوا جميعاً في كنفها!
هناك أيضاً فكرة “الانعزالية الاسلامية” التي أشار إليها الرئيس ماكرون في خطابه وهي واقع تعرفه الكثير من مجتمعاتنا الاسلامية، فتنظيمات التطرف، وفي مقدمتها “الإخوان المسلمين” تعمل بشكل مواز للدولة ليس فقط في فرنسا ولكن في دول عربية وإسلامية نعرفها جميعاً، ولا داعي لأن نعيش حالة إنكار في هذا الشأن.
علينا جميعاً التسليم بأن مكافحة الارهاب والتطرف ليست في ساحات القتال فقط، بل تبدأ وتنتهي في الضمائر والعقول وأيضاً النوايا..!