سالم الكتبي
كثيرة هي المحطات المشرقة في تاريخ المملكة المغربية الشقيقة، ومن بينها وأبرزها على الإطلاق ذكرى عيد الاستقلال، حيث توجت هذه المحطة رحلة نضال وطني طويلة تضافرت فيها إرادة الشعب والعرش، وظلت رمزاً لتلاحم الطرفين من أجل الوطن والحفاظ على كبرياء هذا الشعب العريق واسترداد حريته وصون كرامته.
الآن، وبعد ستة عقود بالتمام من هذه المحطة النضالية التاريخية، حري بنا أن نقف ونتأمل ونستعيد الذكرى بمنظور علمي ومنهجي مغاير، فالأدبيات التي سجلت ووثقت هذا الحدث التاريخي لم تزل بحاجة إلى مزيد من الجهد والعمل والتركيز العلمي، لاستخلاص مزيد من الدروس واستشراف مزيد من الأبعاد والجوانب المضيئة والمشرقة في تاريخ التجربة النضالية والتحررية المغربية، التي تتميز عن التجارب المناظرة بسمات وخصائص تستوجب الفحص العلمي والمنهجي المتجدد.
والدافع الأساسي وراء مطلبي هذا أن الشعوب تستدعي دروس التاريخ كي تستمد منها شحنات من الإرادة التي تحتاجها في مسيرة العمل والانتاج والتنمية في الأوقات الحاضرة، وليس هناك مخزون من هذه الشحنات أكثر من تلك التجربة النضالية الفريدة، التي خاض فيه الشعب والعرش معاً معركة استقلال كانت تضحياتها كبيرة وأحلامها وتطلعاتها عظيمة، حيث كان الكفاح في وجه قوة استعمارية غاشمة لها أثمان باهظة وتكاليف غالية ليس أقلها الروح والدماء وفراق الأرض والأوطان، فما كان هذا النضال التاريخي ليتوج سوى بانتصار يوازيه في المكانة ويضاهيه في القيمة، وما كان لشعب وقف وراء رمز وحدته ونضاله بهذا التماسك والاصطفاف الفريد سوى أن ينال حريته ويستعيد سلطة القرار في أرضه ووطنه الغالي.
يتسم الشعب المغربي الشقيق طيلة نضاله التاريخي بالتماسك والتوحد والاصطفاف الوطني وهذه السمة الفريدة لازمت محطاته النضالية التاريخية كافة، ولا تزال حاضرة في رحلته الانسانية والتنموية التي يقودها باقتدار وحكمة صاحب الجلالة الملك محمد السادس ـ أعزه الله ـ فقد أثبتت السنوات القلائل الماضية أن وحدة الشعب المغربي فوق أي اعتبارات أخرى، وهذه القناعة المتجذرة في الوعي الوطني المغربي أسهمت من دون شك في عبور المغرب واحدة من أكثر المراحل التاريخية حساسية وتعقيداً في تاريخ المنطقة من دون خسائر تذكر، ولعب الدور الأبرز في ذلك وعي القيادة بطبيعة نلك المرحلة وما تحمله من مخاض عسر للأزمات وما تموج به من أخطار وتحديات.
المملكة المغربية التي واجهت مخططات الاستعمار الفرنسي وخرجت من التجربة الاستعمارية أمة قوية متماسكة قادرة على صون هويتها وعراقتها وأصالتها، لا تزال تمضي بالروح الوطنية الوثابة ذاتها، حيث قطعت أشواط كبير على درب البناء والتنمية، وحققت نجاحات كثيرة على صعيد بناء دولة المؤسسات القادرة على تحصين البلاد في مواجهة أي أنواء أو عواصف لا قدر الله، وليحتفظ المغرب الشقيق بمكانته كمنارة للاشعاع الفكري والثقافي والحضاري، وكمركز للحداثة ومعبر للثقافات وممر لتلاقي الحضارات والأفكار والتواصل الانساني.
ويدرك الباحثون والمتخصصون أن الشعب المغربي قد اكتسب من عبقرية الموقع الجغرافي لبلاده، ومن التجارب النضالية التي مرت به، ومن استيعابهم للموروث الثقافي والمنتج الفكري والحضاري الأوروبي، سمات ثقافية وحضارية وانسانية فريدة، حيث يدرك الأشقاء المغاربة أهمية الاصطفاف والتماسك والوحدة الوطنية بحكم مقدرتهم الجيدة على استيعاب تجارب التاريخ وما تحفل به من دروس وعبر وعظات، فضلا عن أن سياسات الاستعمار القائمة التي انطلقت من فكرة التقسيم والتفتيت ومبدأ “فرق تسد”قد أصقلت خبرتهم وغرست فيهم قيمة الوحدة ومقاومة محاولات الانقسام والفرقة بين ابناء الشعب الواحد.
ذكرى الاستقلال الوطني للمملكة المغربية قد تكون وقفة قصيرة بحسابات الزمن، ولكنها مهمة على صعيد استعادة دروس الماضي، واستدعاء روح النضال الوطني في مواجهة التحديات التنموية الراهنة، فمعارك التنمية والبناء لا تقل حدة وشراسة عن معارك النضال ضد الاستعمار، وتلعب فيها الارادة الشعبية والجهود الوطنية الأدوار الأبرز، ما يجعل من هذه الذكرى محطة بالغة الأهمية ليس فقط على الصعيد الاحتفالي ولكن أيضا على صعيد الفهم والدراسة والنقاشات العلمية كما أوردت في مقدمة حديثي.
في مثل هذه الأيام منذ نحو ستة عقود مضت، أعلن المغفور له بإذن الله تعالى محمد الخامس عن “انتهاء عهد الحجر والحماية وبزوغ فجر الحرية والاستقلال”إيذانا بانتصار ثورة العرش والشعب، والانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، الذي يمضي فيه الأشقاء المغاربة تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس ـ أعزه الله ـ من أجل بناء وطن ودولة حديثة تليق بنضال هذا الشعب الشقيق وأصالته وعراقته.
الثامن عشر من نوفمبر 1955، هي ذكرى انتصار وتجربة تحررية عربية بنفس درجة ومستوى كونها مغربية المنبت والمنشأ والهوى والهوية، ولكن نتصور أن لنا الحق جميعاً ـ كعرب من المحيط إلى الخليج العربي ـ في الاحتفاء بها واستلهام دروسها وخلاصاتها وتجاربها لتساعد شعوبنا جميعها في استنهاض الاحساس الوطني وتحصين الوعي الجمعي ضد مؤامرات تحاك ضد الكثير من هذه الدول والأوطان وتستخدم فيها أحياناً معاول بيد قلة أو نفر من أبنائها، فما أحوج الجميع إلى التمسك بتلابيب الأرض والأوطان، وما أحوج الأوطان إلى أبنائها المخلصين كي يصونوا وحدتها ويدافعوا عن أمنها واستقرارها.