حاوره / عصام حجلي
مما لا شكّ فيه أن الناقد المغربي الدكتور: «عزالدين المعتصم» يبصم على حضور نوعيّ ومتميز في المشهد الثقافي بالمغرب، من خلال حفرياته النقدية الجادة والمنقبة في تضاريس التراث الأدبي المغربي، يظهر ذلك جليا عبر اشتغاله النقدي في كتابيه الموسومين ب: «النزعة الصوفية في الشعر الملحون»، و«الخطاب الصوفي في الشعر الملحون: مقاربة موضوعاتية في ديوان الشيخ عبد القادر العلمي»، حيث وقف بالدراسة والتحليل عند مظاهر الحضور الصوفي في الشعر الملحون، وفق مقاربة نقدية سعت إلى كشف الخفي والمستور عن جماليات الدهشة وفيوضها الإبداعية والروحية في عجائب حدائق التراث الأدبي الملحوني وذخائره وكنوزه المتفجرة سحراً وإبداعاً ناطقاً بتطريز فنّ القول، مشحوناً بأسرار الحكمة ومسالكها الفاتنة، والمبحرة في أعماق لاوعي الذات والجماعة. إضافة إلى هذيْن العمليْن النقدييْن، في حوزة الرجل مؤلف: «الخطاب السردي ولذة التلقي في التجربة الإبداعية للقاص محمد الشايب».
وإلى جانب هذه الأعمال النقدية الفردية، شارك الباحث في تأليف مجموعة من الكتب الجماعية: «اشكالات تنزيل القيم في المدرسة المغربية» (2018)؛ «جماليات الخطاب السردي: قراءات في قصص ألق المدافن» للقاص رشيد شباري (2018)؛ «شعرية الرؤى في قصيدة ما بعد الحداثة عند الشاعر أحمد مفدي» (2018)؛ «السرد العربي وسؤال التلقي: قراءات في قصص: «ماذا تحكي أيها البحر؟» للكاتبة فاطمة الزهراء لمرابط (2020)؛ «قبس من البلاغة المغربية: منارات من الخطاب الشعري عند أحمد مفدي بين تنوع القراءات وترف التأويل» (2021)؛ «الثقافة الشعبية والتراث المحلي بالمغرب الواحد» (2021) (الأدب الشفهي). علاوة على هذه الاهتمامات والمواكبات النقدية، يعمل الكاتب على تسيير شؤون مجلة «الصقيلة في النقد والإبداع» مع الطاقم الساهر على المجلة وجمعية «الراصد الوطني للنشر والقراءة» ولاشكّ أن في مفكرة الكاتب المزيد من الانشغالات النقدية والبحثية.
الحوار التالي يقربنا أكثر من الناقد والباحث الدكتور: «عزالدين المعتصم» في حديثه لجريدة الملاحظ جورنال : «أدعو الباحث المهتم بدراسة الخطاب الأدبي إلى ضرورة تعليل الأحكام وفق منهج لا يسمح بهيمنة الذوق الشخصي»، وهو الذي يرى أنّ «قراءة النص الصوفي تتطلب قارئا صوفيا يخترق البناء الشعري ليصل إلى محتواه الوجودي الوجدان…».
نبدأ حوارنا هذا بسؤال كلاسيكي؛ من يكون عز الدين المعتصم؟
أتقدم بخالص الشكر للأستاذ “عصام حجلي” على هذه الالتفاتة الطيبة. أما بخصوص هوية «عز الدين المعتصم»، فهو بكل بساطة مواطن مغربي يروم تنزيل القيم النبيلة في المدرسة المغربية بهدف الرفع من مردودية العملية التعليمية التعلمية والارتقاء بالفعل التربوي.
ما العوامل التي أسهمت في تشكيل شخصية عز الدين المعتصم مدرساً، وناقداً، وفاعلاً جمعوياً، له حضور وإشعاع في المشهد الثقافي؟
عوامل عديدة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، بخصوص شخصية المدرس تعزى إلى النسق الثقافي الذي كان يجسده أستاذ اللغة العربية في ذهنية المجتمع المغربي، منذ قرون من الزمن، فضلا عن تربية الناشئة على القيم قصد تكوين مجتمع إسلامي فاضل تسوده مكارم الأخلاق. أما شخصية الناقد، فأنا أفضل صفة الباحث الذي يسائل النصوص الأدبية ويبحث عن المناهج النقدية الملائمة لسبر أغوارها. أما بالنسبة إلى الانخراط في العمل الجمعوي، فهو عمل تطوعي ناجم بالأساس عن إيماني العميق بالأهداف التي ينشدها الإطار الذي أنتمي إليه وهو «الراصد الوطني للنشر والقراءة»، إذ يسعى إلى التحفيز على فعل القراءة ومتعة الإبداع والتعريف بالمبدعين والباحثين ونشر الأعمال القيّمة التي من شأنها النهوض بالفعل الثقافي ببلدنا. زيادة على الرغبة الجامحة في صقل مواهب اليافعين والشباب وتشجيعهم على المشاركة في المسابقات الأدبية على المستوى المحلي والوطني.
ما النصوص الأولى التي ورطتك في لذة القراءة ولعنة الكتابة؟
الورطة الجميلة في لذة القراءة ولعنة الكتابة جسَّدتها جملة من النصوص الأدبية، لكن أهمها نصوص دواوين الملحون المغربي الصادرة عن أكاديمية المملكة المغربية، إذ استطاعت هذه النصوص أن تحقق تطوراً ملموساً على مستوى الموضوعات والخصائص الفنية. وقد عملنا على مقاربة هذه النصوص، كما حاولنا فحص الموضوعات والقضايا الأهم التي يطرحها الشعر الملحون من جهة، والقيام بتحليل العديد من النصوص الدالة والمعبرة من جهة ثانية.
لا شك أن التجربة الأولى لها أسرارها ومكانتها في ثنايا الذاكرة والوجدان، هل لك أن تحدثنا عن دهشة البداية الوجودية لإصدارك الأول؟
لا جدال في أن الباحث يشعر بالبِشر والحُبور عند معانقة أول إصدار نقدي، وعندما عرف إصداري النقدي «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب» النور شعرت بسعادة غامرة، لأن هذا العمل كان في الأصل أطروحة حضَّرتها لنيل درجة الدكتوراه بعنوان «الخطاب الصوفي في الشعر الملحون»، وقد استغرق هذا العمل مدّة غير يسيرة من البحث في المراجع والمصادر ذات الصلة بالشعر الملحون، فضلا عن التأمل في أدوات وآليات المقاربات الحديثة، لأننا نُلْفِي جملة من التحولات المعرفية والمنهجية التي جَدَّت في نظرية اللغة وأصولها ومستوياتها ووظائفها وطرق تحليلها المتعددة بشكل كلي وشامل. ممَّا يجعل أي مقاربة علمية لهذا الخطاب تختلف في محدداتها ومنهجها عن المقاربات البلاغية السابقة.
«عز الدين المعتصم» من الأقلام النقدية البارزة في المشهد النقدي بالمغرب، وخاصة في مجال التراث من خلال التصوف والشعر الملحون، فما هي أسباب هذا الاختيار؟ وما هي المصادر التي دفعتك إلى الحفر في ذاكرة التراث الشفهي؟
من جملة العوامل الذاتية التي قوَّت من إصرارنا على خوض مغامرة قراءة الشعر الملحون واستكناه موضوعاته الصوفية، الاعتراف بالدور الريادي الذي يضطلع به الشعر الملحون في التعبير عن الحياة الاجتماعية والثقافية للمغاربة والرغبة في ملامسة لغة الخطاب الصوفي الزاخرة بالرموز والدلالات التي تتطلب من المتلقي فهما علميا دقيقا، لأنها تستمد قوتها من عوالم التقديس الكبرى في حياتنا رغم ما يلفُّ جنباتها من غموض.
أما العوامل الموضوعية فتنحصر في الطفرة النوعية التي حقّقها الشعر الملحون الصوفي على مستوى الإبداع منذ قرون، وهي طفرة، رغم قيمتها المضمونية والشكلية، لم يواكبها ما تستحق من الدراسة النقدية، إذ ما زال النقد الأدبي في المغرب مخمورا، إلى حد ما، بتجربة قصيدة الشعر بالعربية المعيار. ولهذا تعد أعمالنا محاولة جادة لدراسة قصيدة الملحون الصوفي، وذلك عبر تحويلها إلى مادة مهيأة للأسئلة الأكاديمية؛ أي الأسئلة النظرية والمعرفية، التي تنير إشكالات الممارسة النصية للشعر الملحون الصوفي. ذلك هو الدافع الموضوعي الذي حثنا على اتخاذ الشعر الملحون المغربي متنا لدراسة ذات طابع أكاديمي، تروم استجلاء القضايا النظرية والمنهجية التي يطرحها هذا الشعر بغية استشراف أفق بعيد، يتهيأ به التفكير في موضوعاته وجمالية شعريته. وتتفرع عن هذا الدافع الموضوعي المركزي دوافع أخرى لا تقل أهمية عنه، بل تتضافر جميعها للتأكيد على الديناميكية التي صارت تتمتع بها قصيدة الملحون.
أما المصادر التي حفزتنا على الحفر في ذاكرة التراث الشفهي فكثيرة ومتعددة، لعل أهمها التكوين بمسلك الماستر الموسوم بـ«دراسات في الثقافة الشعبية المغربية» ومختبر اللغة والمجتمع بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة. وبهذه المناسبة أشكر جميع الأساتذة الكرام الذين يحفزون الطلبة على النبش في تراثنا الشفهي الذي يفصح بجلاء عن هويتنا الثقافية.
ورد في كتابك: «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب»، دراسة في الرموز والدلالات؛ «يعد التصوف ظاهرة نفسية واجتماعية، كان لها الأثر البالغ في الشعر الملحون المغربي، الصادر عن نفوس غلبها الوَجد، وتملّكها الشوق للتخلص من ربقة المادة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ثمة كان الخطاب الصوفي عامة، والشعري منه خاصة، محموم العاطفة، يعتصر المعاني العميقة والصور البديعة والرؤى الفنية…» هل لك أن تحدثنا عن المنحى الصوفي في الشعر الملحون؟ وماهي أبرز النتائج التي توصلت إليها عبر الكتاب؟
من المعلوم أن شيوخ الزوايا الصوفية بالمغرب قد اتخذوا منهجا متميزا في تربية المريدين وتلقينهم تعاليم الشريعة الإسلامية، بهدف الإصلاح الروحي للنفس البشرية، ووعظها وهدايتها إلى طريق أهل الله، وتكريهها طريقة أهل الضلال. وهذه صورة عن البيئة الدينية والعلمية التي كانت الظاهرة الصوفية أهم طابع يميزها، تلك البيئة التي رسمت شخصيات شعراء الملحون الصوفي وطبعتها بروحانيتها التي انعكست على دواوينهم الشعرية. وبهذا قد تمَكنَّا عبر كتاب «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب» من الاطلاع على نموذج متميز من الشعر الشفهي في مجال التصوف، ويتعلق الأمر بالشعر الملحون الذي يحفل بجملة من الموضوعات التي لا زالت تتفاعل معها الذوات والعواطف تفاعلا ظلَّ يتجدد بتجدد أساليب الاستيعاب لدى المتلقي. ومن ثَمَّة، نجد لهذا الخطاب الشعري صلة وثيقة بشعر الزهد والمديح النبوي من الناحية الموضوعاتية. وقد قادتنا دراسة المتن الشعري ومباشرته عبر ثلاثة فصول، لكل منها أسئلته النظرية والإبيستمولوجية، إلى النتائج التالية:
تستدعي اللغة الصوفية من المتلقي كَدّ العقل وإِعْمَال الفكر، بهدف فهم الخطاب الصوفي، لأن النص الصوفي لا يكتسب صبغته الصوفية من معرفتنا المسبقة بصوفية الباث، بل من قدرته على الانفتاح على جهاز قراءة تبلورت مفاهيمه ضمن تصور وجودي صوفي.
ضرورة استناد دارس الخطاب الصوفي إلى آليات تحليل الخطاب التي تساعده على كشف مفاهيمه وإبراز معانيه ودلالاته، ومن ثمة، فإن قراءة النص الصوفي تتطلب قارئا صوفيا يخترق البناء الشعري ليصل إلى محتواه الوجودي الوجداني، ويغدو سالكا يملك القدرة على أن يعيد للتجربة الصوفية أساسها الذي هو الملازمة والمعاناة والترقب والاضطراب والخنوع.
يعدُّ التصوف استنباطا لظواهر الشريعة، وتأمُّلا في أحوال الناس وتأويلا للرموز. فالمريد السَّالك لطريق التَّصوف لابد له من قطع مراحل عديدة هي المقامات والأحوال، وهي كلها فضائل وأحوال نفسية وأخلاقية، تتمخّض عن مجاهدة النفس وقمع شهواتها ورغباتها، يترقى فيها السالك عن طريق المجاهدات والرياضات، ويلتزم بتوجيهات الشيخ المرشد قصد الوصول إلى المعرفة بالله التي تفضي به إلى محبته سبحانه وتعالى.
من خلال متابعاتكم النقدية واحتكاكم بالنصوص الإبداعية، كيف ترون وضع النقد بالمغرب؟ وهل تمكن النقاد من مواكبة الكتابات الإبداعية وفق معايير موضوعية محددة بحق؟ أم يحضر النقد “المجاملاتي”؟
يعاني النقد المغربي من الأزمة والتشتت، والسبب يعزى إلى تسليم كثير من النقاد المغاربة بقيمة المنهج وما يختزنه من طاقة إجرائية، بيد أنّهم يستبعدون خلفياته التاريخية والمعرفية، وأسسه العلمية والفلسفية. وقد خلّفت لنا الممارسة النقدية بالمغرب العديد من النقاد المتميزين الذين كرّسوا أقلامهم لدراسة النص الأدبي واستكناه مستوياته الدلالية والسيكولوجية والموضوعية والبنيوية والأسلوبية، وذلك من خلال مواكبة جملة من الأعمال الإبداعية القيمة في السّاحة الأدبية، عدّتهم في ذلك الالتزام بشروط المنهج العلمي الموضوعي الذي يسعى إلى الحد من العنصر الشخصي، وتحري الحذر، وتعليل الأحكام بالأسانيد والدراسة التحليلية في مجال الدراسات النقدية، فضلا عن اعتماد الدراسة الموضوعية الدقيقة. لكن، وللأسف الشديد، بعد الاطلاع على بعض المجلات الوطنية المحكّمة، نلمس هيمنة النقد الذي يحركه فن المجاملة والمحاباة، ونشر الدراسات الانطباعية التي لا تعتمد على أطر وحدود علمية وموضوعية تعد سبيلا للفهم وأداة للعمل العلمي المنظّم في دراسة الخطاب الأدبي، وهذا القصور في التوسل بالنقد الموضوعي يكمن في غياب الاستعداد العلمي الذي يجعل المنهجية العلمية الصارمة أو الدقيقة أساس التناول النقدي للعمل الأدبي. ولتلافي النقد “المجاملاتي” ندعو الباحثين إلى التأمل في قول شكري عياد الذي يسلط الضوء على تجربته النقدية: «النقد عندي فرع عن القراءة؛ فأنا لا أنقد إلا عملا عايشته وشعرت أني نفذت إلى باطنه، وعدَّتي في ذلك هي الأدوات التي استفدتها من علم الأسلوب ومن تاريخ الأدب، وفوق ذلك من البصيرة –غير المحددة بقوانين- التي استفدتها من قراءات في مختلف العلوم الإنسانية. وغالبا ما أشعر أثناء الكتابة عن عمل أدبي أني أكتشفه من جديد، وربما كان تحمسي لهذا النوع من النقد –في ضوء تجربتي الشخصية- هو الذي يجعلني آخذ على معظم النقد الذي ينشر في المجلات الأدبية العربية في هذه الأيام بأنه نقد تكنيكي مبرمج لا يحمل طابع المعاناة الفكرية والنفسية، ويكاد يخلو من أي إبداع. وربما كان الحصار النقدي في دائرة المجلات الأدبية المتخصصة، وابتعاده عن الصحف السيارة –أـو على الأصل نفيه منها- مشجعا على هذه “الكهنوتية النقدية” التي أصبحت ظاهرة ملحوظة في الوقت الحاضر».
هذه شهادة ناقد جرّب الإبداع والنقد وخبر اتجاهات ومناهج مختلفة قديما وحديثا، فحري بنا أن نأخذ رأيه مأخذا جديا. لأن النقد الأدبي وليد معايشة وجدانية بالعمل الأدبي، وأنه نوع من الإبداع القائم على المعاناة، وأن عدّة الناقد تكمن في البصيرة والأدوات المكتسبة، وأن الكتابة النقدية نوع من الاكتشاف الجديد.
لعبت التكنولوجيا وفضاءات التواصل الاجتماعي أدوارا كبيرة في التعريف بالمنجز النقدي والأدبي وفي اتساع رقعة انتشارهما، في نظركم هل وصل الناقد إلى عموم القراء؟ أم أنه يكتب لنفسه ولعدد محدود من القراء؟
من نافلة القول إن التكنولوجيا وفضاءات التواصل الاجتماعي لعبت أدوارا كبيرة في التعريف بالمنجز النقدي والأدبي وفي اتساع رقعة انتشارهما من خلال التعريف بالمؤلِّف والمؤلَّف، لكن ليعرف الكِتاب حظّه من الانتشار على نطاق أوسع، ينبغي على دور النشر القيام بعملية التوزيع على المكتبات. وفي نظري إن الناقد المتخصص لا يكتب لعموم القرّاء وإنما لفئة معينة تهتم بمجال من المجالات البحثية، وعلى هذا الأساس فأنا لست من الذين يدافعون عن الطرح القائل بأن الكاتب يكتب لنفسه ولعدد محدود من القرّاء، لأن ضمير “الأنا” الذي يقترب من النص الإبداعي، هو نفسه متعدد الدلالات من خلال قراءات متعددة ونصوص أخرى، ولهذا، فإن تلقي النص الإبداعي يتم من خلال عدة مستويات تتحكم فيها القراءة باعتبارها فعلا تلفظيا؛ أي قراءة خاضعة للخطاب الأدبي. فالقارئ يقرأ إبداعه على شكل عمل تحليلي أو نقدي مادته الأساس “الكلمات” أو “الألفاظ” التي هي مفتاح الدخول إلى العوالم الخفية والظاهرة للنص الأدبي. ومن ثمة، فإن القارئ “المتلقي” هو الذي يعطي للمقروء معنى، ومثل هذه القراءات هي المؤهلة للكشف عن المسكوت عنه، بواسطة ملء الثغرات التي يحتويها النص، وتقتضيها ضرورة نوع الخطاب.
حسب تعبير الفيلسوف مسكويه: «من خلا بالعلم لم توحشه خلوة، ومن آنس بالكتب لم تفته سلوة» نلاحظ علاقتكم الحميمية بالقراءة من خلال تأطير المتعلمين وتحفيزهم على القراءة والكتابة، كيف يتفاعل المتعلمون معها؟ وما هي النتائج المحققة؟ وإلى ما تعزون عزوف المتعلم عن فعل القراءة؟
أعتقد أن المهمة التي يجب أن يضطلع بها المدرس هي تأطير المتعلمين وتحفيزهم على القراءة والكتابة، لأن المؤسسة المدرسية تعد مكانا يلتقي فيه الأفراد والجماعات، وهي التي توفر لهم فرص التفاعل فيما بينهم، كما أنها تعمد إلى تربية الناشئة وتكوينهم وفق الثقافة التي تمثلها كمؤسسة مدرسية. فهي مؤسسة لإعداد الفرد للحياة المهنية، بالإضافة إلى حرصها على تكوين مواطن صالح له من الحقوق ما له، وعليه ما عليه من الواجبات. ومن خلال تجربتي مع المتعلمين، أنوّه بتفاعلهم الطيب مع قراءة الكتب وإدراك مضامينها مما ساعدهم على المشاركة في العديد من المسابقات الأدبية والفوز بجوائز مهمة ورتب مشرّفة على الصعيد الوطني، زيادة على الإسهام في كتب قصصية، نذكر منها: «مشاتل1»، «مشاتل2»، «مشاتل3»، الصادرة عن منشورات “رونق”، وكتاب «عيون تكتحل بالأمل» الصادر عن نادي عكاظ بورزازات، فضلا عن نشر قصص التلاميذ ضمن ركن “مشاتل” بمجلة “الصقيلة في النقد والإبداع”.
باعتباركم عضو لجنة القراءة بـ«الراصد الوطني للنشر والقراءة»، كيف تنظرون إلى مستوى الإبداع والبحث العلمي؟ وهل تعتبر من مجال اشتغالكم بأن استسهال النشر وتغييب لجان القراءة من دور النشر عوامل كرست أزمة القراءة والكتابة؟ وما مدى تفاعل الكتاب مع تقارير لجنة القراءة التي تشتغلون عبرها؟
انطلاقا من تجربتي مع “رونق”، واعتمادا على النصوص الإبداعية والدراسات العلمية التي تُرسل إلينا بهدف النشر، وباعتباري عضو لجنة القراءة ألحظ أن مستوى الإبداع شهد تراجعا ملحوظا على مستوى المضمون والشكل، لأن العديد من المبدعين يكتبون النصوص دون علم بمقومات ومكونات الأجناس الأدبية المعروفة، ودون إدراك لخصائص الخطاب الأدبي، بالإضافة إلى أن المبدع، في الكثير من الأحيان، لا يكلف نفسه قراءة ومراجعة وتنقيح إبداعه. وبالقياس إلى ذلك نجد بعض المبدعين الذين يسهرون على العناية بأعمالهم الإبداعية، إنتاجا وتلقيا، رغبة منهم في التعبير عن الذات والجماعة ومواكبة الركب الحضاري والتكنولوجي، لأن الخطاب الأدبي يتميز بأهمية كبرى نظرا لوظيفته الجمالية والاجتماعية والروحية، وكذا تنوع موضوعاته التي تستميل المتلقي لها، وتحفِّزه على التفاعل معها دينيا واجتماعيا وفنيا، تبعا لما يحدثه هذا الخطاب من أثر على عاطفة الإنسان.
أما بخصوص البحث العلمي فقد شهد تطورا ملموسا عند فئة قليلة من الباحثين الذين آمنوا إيمانا قويا بضرورة الاعتماد على المناهج النقدية الحديثة في مقاربة الأعمال الإبداعية، وأولوا أهمية بالغة بالقارئ الذي يعدُّ هوية حاضرة في النص الأدبي، وموجودة خارجه في الآن نفسه، واهتموا بآليات التأويل التي تمنح الباحث إمكانية إنتاج المعرفة وتثبيتها داخل الثقافة الاجتماعية في شكل نصوص مقبولة ومعترف بها، لكن، للأسف الشديد، هذا النّزر اليسير هو الذي يسعى إلى الارتقاء بالبحث العلمي. أما الحقيقة المرّة فتكمن في الاستسهال النقدي وعدم الالتزام بصرامة المناهج النقدية الحديثة. ومن هنا ندعو الباحثين إلى التزام الروية والحذر، وتفادي الخنوع المطلق لسيطرة العنصر الشخصي، وتجنب الأحكام العامة التي لا تستند على دليل واقع النص، الموضوع على محك الدرس والتحليل، والاعتماد على الذوق الأدبي الأصيل الذي يقوم على الثقافة الواسعة المرتبطة بحياة الأدب وتطوره والمعرفة بأسرار اللغة ودقائقها. ومن ثمة، فإن غياب لجان القراءة من دور النشر من شأنه أن يخلق أزمة حقيقية في القراءة والكتابة. ومن هذا المنطلق أشكر الباحثين والمبدعين على الثقة الغالية التي وضعوها في أعضاء لجنة القراءة، فمعظم الكتّاب يتعاملون بشكل جيد مع تقاريرنا، ويتفاعلون مع الملاحظات ويبادرون إلى تقويم إبداعاتهم ودراساتهم وتنقيحها قبل النشر.إن الحقيقة الثابتة التي لا محيد عنها هي أن النشر بالمغرب حافل بالخطوب، إذ واجهتني العديد من الصعوبات عندما قررت نشر الكتاب الأول، لكن جميع العراقيل والصعوبات تبدّت مع «الراصد الوطني للنشر والقراءة» سنة 2019، ومن هذا المنبر أقدم عميق الامتنان للأستاذة فاطمة الزهراء المرابط على تعاونها الطيب. أما الكتاب الثاني بعنوان «الخطاب الصوفي في الشعر الملحون؛ مقاربة موضوعاتية في ديوان الشيخ عبد القادر العلمي» الصادر عن منشورات “رونق” سنة 2020، بدعم من وزارة الثقافة والشباب والرياضة، فلم تعترضه المشاكل المعروفة.
ومن منطلق التخصص أرى أن الإصدارين حققا الهدف المنشود والغاية المتوخاة، ولعل الإقبال الكبير على الكتابين من لدن الباحثين والطلبة خير دليل على ذلك، إذ تفاعل القرّاء والنقاد مع كتاب «النزعة الصوفية في الشعر الملحون بالمغرب» من خلال حفلات التوقيع وتنظيم الندوات العلمية وإنجاز الدراسات النقدية ونشرها بجرائد وطنية ومجلات علمية محكمة. ومن هنا، أقدّم خالص الشكر وعميق الامتنان للأساتذة الباحثين: محمد صولة، هشام بن الهاشمي، محمد أنقار، إدريس الخضراوي، محمد مسرار ورشيد أمديون على مقارباتهم العميقة.
تتحملون مسؤولية تسيير مجلة «الصقيلة» إلى جانب ثلة من المبدعين والباحثين المغاربة، هل ترون بأن للمجلات الورقية قيمة مضافة في ظل انتشار الوسائل الرقمية؟ وما سر استمرار مجلتكم في الوقت الذي تقهقرت وتوقفت خلاله الكثير من المنابر الثقافية؟
أسجل انضمامي إلى الفريق الساهر على تسيير مجلة «الصقيلة» بمداد من الفخر والاعتزاز، فالقاسم المشترك بين الأعضاء هو التّفاني في العمل ونكران الذات، وهدفهم الأسمى هو النهوض بالفعل الثقافي والارتقاء بالبحث العلمي، في ظل الهيمنة الرّقمية التي يشهدها العالم في العصر الرّاهن، لكن المجلة الورقية تكتسي أهمية بالغة لا تضاهيها الوسائل التكنولوجية الحديثة. أما السر الكامن وراء استمرار مجلة “الصقيلة”، في الوقت الذي تقهقرت وتوقفت خلاله الكثير من المنابر الثقافية، فهو تضافر جهود طاقم المجلة، كلّ حسب مجال تخصصه. الأمر الذي جعل المجلة تحظى بدعم وزارة الثقافة منذ 2017، والأهم من هذا كله ثقة المبدعين والباحثين في مجلتنا.
ما مشاريعك النقدية المستقبلية؟
لا شك أن اهتمامي العلمي والنقدي يجعلني منكبّا على البحث في موضوعات شتى تشغلني، والتي ستتمخض عنها مشاريع علمية ونقدية سأعلن عنها مستقبلا.
كلمة مفتوحة…
أدعو الباحث المهتم بدراسة الخطاب الأدبي إلى ضرورة تعليل الأحكام وفق منهج لا يسمح بهيمنة الذوق الشخصي أو تحكّمه، فنحن مع إيماننا بالعنصر الشخصي والذوق الأدبي، إلا أننا لا بد أن ندعّم أحكامنا الخاصة بالمنطق والحجة كي يصبح حكمنا عاما مقبولا لدى الآخرين ومقنعا لهم.