لا تتوقف أعمال البحث والحفر في منطقة «عين الحنش»، بولاية سطيف شرق الجزائر بحثاً عن مزيد من الأدوات التي تثبت وجود الإنسان في تلك المنطقة قبل 1.8 مليون سنة، وقد عثر الخبراء على أدوات استخدمها الإنسان البدائي في ذلك الزمان، ويجري البحث عن تفاصيل تبين طريقة عيشه، وما إذا كان الأمر يتعلق بوجود مستقر، أم مجرد عبور. اكتشف الموقع عام 1947 من قبل العالم الفرنسي «كميل آرمبورج»، الذي قام بالبحث مع فريق من الخبراء المهتمين بعلم الآثار في المكان، فعثر على عظام لكبريات الفقريات، مثل الزرافة ووحيد القرن والفيل وفرس النهر، وقدِّر عمر هذه الآثار وقتها بما بين 700 ألف إلى مليون سنة، وهذه الحقبة تسمى أركيولوجياً «الحقبة الأشولية»، وهي الفترة ذاتها التي تنتمي لها البقايا المستخرجة من منطقة «تيغنيف» غرب الجزائر، أو «تيرنيفين»، كما سمي الموقع علمياً.
لكن البحوث المتعاقبة، وأهمها التي قادها د.محمد سحنوبي، البروفيسور والباحث الجزائري في جامعة «بوبونغتون»، بولاية «أنديانا» الأمريكية، منذ بداية 1992، أثبتت أن الإنسان القديم عاش في هذه المنطقة قبل ذلك بكثير، فقد عثر الفريق في 2006 على أدوات استخدمها الإنسان البدائي، لتوفير حاجاته الغذائية، تمثلت في أسلحة حجرية، وأخرى مصنوعة من عظام الحيوانات، تنتمي لفترات تاريخية مختلفة، وهو ما يعطي الانطباع بأن الإنسان البدائي، استمر على هذه الأرض لفترة طويلة، أي أنه كان مستقراً. وجاء في تقرير صدر عن البعثة العلمية في ذلك العام أن «إنسان عين الحنش»، كما سمي، هو أولى السلالات البشرية المعروفة، التي استوطنت شمال إفريقيا، وتوازي في أهميتها آثار الإنسان القديم، بشرق إفريقيا. وقدّر معدو التقرير، عمر آثار الإنسان المكتشفة، بأكثر من 1.8 مليون سنة. أقام فريق البحث المكون من علماء جزائريين وأمريكيين، عدة أسابيع بمدينة سطيف، تابع خلالها الأبحاث في موقع «عين الحنش»، وأيضاً في أماكن قريبة، وجدت بها آثار للحياة البرية والإنسان القديم. استؤنف التنقيب والبحث مؤخراً في الموقع، بمشاركة خبراء من الجزائر والولايات المتحدة، وطلاب علم الآثار بجامعة الجزائر. استخدمت تقنيات متقدمة ودقيقة جداً في تحليل البقايا، أكدت نتائج بحوث 2006. ورجح الباحثون أن تكون هذه المنطقة مكسوة بالغابات والأحراش وتتوفر على مياه جارية، وهي الشروط التي تغري الحيوانات العاشبة بالاستقرار فيها، أو العودة إليها موسمياً، وهي نفسها التي شجعت الإنسان على العيش فيها. ومع ما تحقق حتى الآن، يرى الخبراء أن البحوث في بدايتها، واستمرار الأبحاث قد تكون له نتائج مهمة بالنسبة لسلوك الإنسان القديم، ونمط معيشته.
وقال الباحث الجزائري إن العمل الذي قام به مكتشف الموقع، قبل نحو 70 عاماً، ركز على البقايا التي وجدها من عظام الحيوانات وعمرها التقريبي، لكن البحوث منذ عام 1992 تركزت حول وجود الإنسان وسلوكه وطريقة عيشه. وأضاف: لم نتوصل حتى الآن إلى العثور على عظام بشرية بعمر الأدوات التي استخدمها، لكن نبحث من خلال تحليل ما نكتشف من أشياء مادية، عن امتداد وجود الإنسان في الزمان والمكان، وكيف كان يعيش، وهل كان من آكلي اللحوم أم الثمار.
تكنولوجيا حجرية
قال الدكتور محمد سحنوبي: إن بحوثنا توصلت إلى أن هذه الأرض كانت مفتوحة ومنبسطة ومكسوة بغابات وأحراش وبها مجارٍ مائية، وهي في تشكيلها تشبه أراضي شرق إفريقيا، التي وجدت بها آثار الإنسان القديم، ومن أهم ما توصلت إليه البحوث الأخيرة: اكتشاف موضعين جديدين قرب مكان الحفر القديم، يحتويان على آثار الإنسان، ما يعني أن وجوده ممتد في الزمان والمكان. الموقع عمره 1.8 مليون سنة على الأقل، وزمانه مفتوح، وقد تكتشف البحوث المقبلة ما يفيد أنه أقدم. أن التكنولوجيا الحجرية التي استخدمها إنسان ذلك الوقت، خاصة باستهلاك اللحوم.
وعن الأهداف المتوخاة من البحث، قال: يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط، الأولى: معرفة متى أقام الإنسان أول مستوطنة له في هذا الجزء من إفريقيا، ومن أين كان الانتشار إلى آسيا أو أوروبا؟ الثانية: كيف تكيف هذا الإنسان مع الوسط الطبيعي، وما هو نمط معيشته والأدوات التي استخدمها، في حياته اليومية؟ وكيف واجه المشكلات؟ الثالثة: إعادة تشكيل نظرة عن المحيط الطبيعي والنظم الآيكولوجية القديمة: التضاريس والغطاء النباتي والحياة البرية.