عبد الرزاق القاروني*
هانس فيرنر غيردتس، فنان وكاتب ألماني متميز، جال في عدة مناطق من العالم، لكن استقر به المطاف، في آخر الأمر، بمدينة مراكش، التي سحرته وألهمته طريقة جديدة في الرسم تدعى الفن الحشدي، محدثة تحولا عميقا في حياته الروحية أدى به لاعتناق الإسلام.
ولد المبدع غيردتس يوم 23 يناير 1925 بمدينة كيل الألمانية. وبعد حصوله على دبلوم في مجال التدريس، عمل أستاذا للفنون واللغة الإنجليزية لبضعة سنين بعدة مؤسسات تعليمية بمسقط رأسه. ومن أجل استكمال تكوينه في المجال الفني وإعطائه مرجعية أكاديمية صلبة، سافر إلى شتوتغارت لدراسة أسس الفن الحديث لدى الفنان ويلي بومستر، أحد رموز الفن التجريدي في العالم. وقد رسم أول لوحة له سنة 1949، وهي عبارة عن عمل فني تجريدي يتسم بتناسق الألوان وجمالية المكونات.
رحلة البحث عن الإلهام
بعد دراسة أصول الفن الحديث، شد هذا الفنان الرحال إلى عدة بقاع من العالم، حيث زار جنوب أوروباوآسيا وأستراليا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط، إضافة إلى إفريقيا الشمالية، مستكشفا العادات والتقاليد والجوانب الفنية الخفية للشعوب، مثل مريد يبحث عن شيخ يوقف تيهانه ويضمد جراحاته أو صوفي يترصد نورا يضيء عتمة قلقه الوجودي، الذي خلفه صعود النازية بألمانيا وارتجاجات الحرب العالمية الثانيةبمختلف بقاع المعمور. وفي اليابان، تعلم تقنية السومي، هذه الطريقة الخاصة في الرسم بواسطة الحبر لدى أحد معلمي مذهب الزن ذي الخلفية البوذية، الذي يدعو إلى التأمل والتبصر في الحياة.
وخلال سنة 1963، أتى غيردتس إلى مراكش، فسحرته، واستقر بها نهائيا قرب ساحة جامع الفنا التي أثرت فيه كثيرا، وكانت بمثابة الشرارة الأولى لظهور تيار جديد، في مجال الفن التشكيلي العالمي المعاصر، يدعى الفن الحشدي.
الفن الحشدي إبداع من عمق ساحة جامع الفنا
يعد الفنان غيردتس مبدع ورائد الفن الحشدي، الذي ألهمته إياه ساحة جامع الفنا. وفي هذا الإطار، يقول هذا الفنان: “أذهلتني حشود مراكش، بحيث أصبحت أرسم من دون أن أعي ما أفعل، لم أكن أتحكم في ذاتي، مشدودا إلى إيقاع الموسيقى ومحاصرا بتنقلات الحشود، أرسم مشاهداتي، كانت الريشة تترك بصمتها على الورق من دون تدخل مني أنا الشاهد”. وكانت الألوان المفضلة لدى هذا الفنان التي يستعملها بكثرة في لوحاته، والتي اختارها لجدران ونوافذ وأرضية منزله هي الأزرق والأبيض والأحمر المستوحاة من فضاء مراكش:الأزرق لون السماء، والأبيض يحيل للون أشعة الشمس، إضافة إلى الأحمر لون المباني.
إن العمل الإبداعي لدى هذا الفنان هو حالة داخلية، يخرج من رحم الدهشة والانجذاب، بطريقة انسيابية وغير إرادية، تحكمها سطوة المكان ويؤثر فيها فعل الإنسان. وبهذا المعنى، يصبح الفنان مجرد وسيط ينقل حالات نفسية مجتمعية بأسلوب فني سمته الرئيسية هي التجسيد المغرق في التجريد، إن لم نقل مثل أحد المجاذيب الذي يرسم شطحاته الفنية، على شكل لطخ تجسيدي، تصبح معه اللوحة مجموعة من العلامات التي تبدو مثل صور أو حروف أو، كما قال غيردتس، مثل كتاب تتشكل حروفه من الكائنات البشرية. وقد تأثر بطريقة هذا الفنان في الرسم بعض الفنانين المغاربة، من أبرزهم الفنان الراحل أمين الدمناتي الذي كان تلميذا له سنة 1966.
ساحة جامع الفنا بوابة العالم
يعتبر غيردتس ساحة جامع الفنا بوابة العالم، فهي تشكل قلب مراكش النابض، ومسرحها في الهواء الطلق، ومدرستها الموازية لمختلف الفنون، علاوة على كونها برج بابل الحديث، حيث يلتقي مختلف السياح والثقافات من كل حدب وصوب.
تعلق هذا الفنان بهذه الساحة، وأعجب بحلقاتها وأجوائها السوريالية، وأذهلته حشودهاوسحرته إيقاعاتها الموسيقية، خصوصا موسيقى كناوة هذه الموسيقى الروحية التي أثرت، بشكل كبير، في نفسيته وفنه. وفي هذا السياق، يقول الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو: “إن هذا الفنان تعلم وكسب خبرة البصاص بمراكش، وكذا النظرة الثاقبة للأشياء والموهبة الكبيرة، تلك الضرورات التي لا مناص منها لاقتناص وفهم تنقل الحلقات، وكذا الحركات والأصوات العابرة، وتعقب الدائرة المتنقلة للحلقة بحيوية ونشاط، مما جعله بحق رسام جامع الفنا بامتياز”.
معارض متنوعة وإرث فني زاخر
عرض غيردتس لوحاته الفنية في مجموعة من دول العالم،من أبرزها:سويسرا،ألمانيا، إيطاليا،فرنسا،اليابان،البرازيل،الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى المغرب،وتوجد نماذج من أعماله الإبداعية بمتاحف الفاتيكان وقصر راينبيك بألمانياودار داود بمراكش التي كانت جزءا من مسكنه بهذه المدينة، علاوة على الحديقة الإيكولوجية “أنيما” التي أبدعها صديقه الفنان النمساوي أندري هيليربضواحي بلدة أوريكا.
تجليات الكتابة في حياة الفنان غيردتس
عرف غيردتس أكثر بكونه فنان تشكيلي،لكن هناك وجه خفي ومشرق في حياة هذا المبدعقلما يعرفه العديد من المتتبعين للشأن الثقافي والفني، على الصعيد العالمي. لقد كان الفنان الراحل كاتبا متمرسا يتقن فن الحكي والسرد،حيث خلف باقة جميلة ومتميزة من المؤلفات، من بينها:رواية تحمل عنوان “يحيا مراكش”وسيرة ذاتية موسومة بـ “يوميات متسكع”.
بالنسبة لرواية “يحيا مراكش”،فقد ألفها غيردتس سنة 1984، وقام بترجمتها للغة العربية المترجمان عبد الغفار سويرجي وسليم رشاد،وقد صدرت سنة 2002عن دارنشر كراس المتوحد بمراكش. وتستلهم هذه الرواية عالمها الإبداعي من فضاء ساحة جامع الفنا،مقدمة نظرة خاصة للحشود وجمهرة الناس.في هذا النص الإبداعي يقول السارد يحيى:”انقضت الآن مدة طويلة على مجيئي إلى مراكش،لم أتوقع في ذلك الوقت،أن أجد بداخل أسوارها الحمراء رجالا لهم أسماء ووجوه،كنت أعتقد أن أشباه الآلهة هم هنا أيضا موجودون:لرجال مراكش طبائع خاصة تتجلى في حركاتهم وتصرفهم النبيل”.
وفي سنة 2005، صدرت لهذا الفنان سيرته الذاتية التي تحمل عنوان “يوميات متسكع”، والتي قام بترجمتها من الألمانية إلى الفرنسية فاروق الشرايبي. في هذا المتن السردي، نكتشف مع غيردتس أن الدخول لمراكش يبدأ بسفر داخلي من ساحة جامع الفنا، حيث يعترف السارد، منذ بداية النص، بلحظة اغتراب قوية عند وصوله لهذه المدينة، أصعب من تلك التي أحس بها حين غادر بلده الأصل، لقد كانت صدمته كبيرة نتيجة معاناته اليومية التي عاشها، متسكعا من أجل توفير العيش الكريم لشخصه، لكن هذا الوضع لا يلبث أن يزول، حيث يتجول السارد في متاهات وأزقة المدينة، وينتابه إحساس آخر، عندما تقوده هذه الأمكنة لنسج علاقات تطبعها الألفة وتجعله يندمج في هذه المدينة.
الفنان غيردتس في عيون النقد التشكيلي
كثيرة هي الأعمال التي تطرقت للتجربة الفنية الغنية والفريدة لغيردتس، لكن يبقى كتاب “هانس فيرنر غيردتس، الفنان وأعماله” للناقد والمؤرخ التشكيلي الألماني سيجفريد غنيشويتز من أهم الكتابات، في هذا المجال. وقد قام بترجمته إلى اللغة الفرنسية الشاعر والمترجم السويسري برونو مرسيي، وصدر سنة 2007 عن منشورات كراس المتوحد بمراكش، محاولا تقريب أعمال الفنان الراحل من القارئ، عبر السياق التاريخي الذي أبدعت فيه.
وبخصوص تيار الفن الحشدي الذي أسسه غيردتس، يقول هذاالباحث الجمالي الألماني إن ساحة جامع الفنا مارست مفعولها السحري على الفنان بحشودها الموزعة على شكل دوائر بشرية، ما تفتأ تظهر في مكان حتى تتلاشى لتتشكل في مكان آخر، حيث تبدو من أعلى مثل حروف بشرية.
من أجل متحف استرجاعي للفنان غيردتس
إثر حلول غيردتس بمراكش، اقتنى رياضا أطلق عليه اسم دار فنان بدرب الحمام بحي المواسين العريق، غير بعيد عن ساحة جامع الفنا، ومع مرور الزمن تعلم اللغة العربية وعاش هناك، ما يناهز 50 سنة، حياة في الظل، مفعمة بالإبداع الأدبي والفني، تتخللها، من حين لآخر، جولات ترويحية بهذه الساحة وخارج المدينة، من أجل تجديد الأنفاس والطاقة الإبداعية. كما شيد مسكنين، في مكان مستأجر، بدوار سيدي بوزكية بإقليم الحوز، كان يذهب إليهما، بين الفينة والأخرى، للرسم والابتعاد عن ضوضاء المدينة وممارسة نوع من الخلوة الفنية.
والآن، بعد رحيل هذا الفنان، يعود جزء من مسكنه بمراكش لصديقه الحميم عبد الرحيم بنداود، الذيحوله إلى قاعة شاي مزينة بمجموعة من أعماله الفنية، التي نأمل أن يكون لها بعد ثقافي وإشعاعي. كما نتمنى أن يحظىالفنان الراحل بمتحف استرجاعي يحفظ ذاكرتهالفنية والثقافية من الضياع والنسيان، ويصبح إحدى المعالم السياحية بهذه المدينة. وفي هذا السياق، يقول بن داود:”فكرة إحداث متحف للفنان غيردتس تراودني منذ مدة، وهي تحتاج لدعم الجهات المسؤولة عن الشأن الثقافي والجماعي، وأعتقد أن أحسن مكان لذلك هو قرب أوريكا، حيث كان يحلو له أن يقضي أوقات ممتعة”.
اعتناق غيردتس للإسلام
بعد تفكير عميق واقتناع تام، اعتنق الفنان الراحل الإسلام سنة 2011، وأطلق على نفسه اسم البشير، تيمنا باسم صديقه حارس المقبرة التي دفن بها، وإيمانا منه بأن معتنقي هذه الديانة، خصوصا أناس القرب، من جيران وأصدقاء ومعارف، يتميزون بالطيبوبة والتسامح والتكافل والاتزان الروحي والنفسي، هذه القيم التي بدأت تندثر في المجتمعات الغربية.
غادرنا غيردتس إلى دار البقاء، يوم 22 غشت 2013، ودفن جثمانه بمقبرة سيدي علي بن قاسم قرب مسجد الكتبية بمراكش، موصيا أن يكون قبره بسيطا، ولا يحمل أي علامات مميزة أو مثيرة للانتباه، وكأني به مثل فيلسوف متنور يقول، في تشبع تام بالعدالة الاجتماعية، بأن الناس إن لم يكونوا سواسية في الحياة، فعلى الأقل ينبغي أن تسود بينهم الوحدة والتجانس في الممات.
*عبد الرزاق القاروني/ صحفي وباحث مغربي