دأبت وزارة الإقتصاد و المالية بتعاون مع المؤسسة الدولية للمالية العامة (Fondafip)، على تنظيم ندوات دولية حول تطور تدبير المالية العمومية منذ سنة 2007، بغية تبادل الخبرات والتجارب في مجال التدبير العمومي و المالي. و قد وقع الإختيار بالنسبة لهذه السنة على تدارس موضوع “الحكامة المالية للمدن بالمغرب و فرنسا”، و الذي إحتضنت أشغاله الخزينة العامة للمملكة بالرباط يومي الحادي والثاني عشر من شتنبر الجاري.
و لاشك أن إنتقاء هذه الإشكالية ضمن معضلات التدبير المالي، يعكس المنحى التطوري للقضايا التي يتناولها هذا الموعد العلمي البارز. فبعد أن كان البحث عن السبل الكفيلة بإصلاح المالية العامة هو محور ندوات سنتي 2007 و 2008، دفعت الأزمة المالية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية و التي إنتقلت شرارتها إلى العديد من الدول بفعل تداخل الإقتصاديات، إلى تحفيز القائمين على هذا المنتدى الفكري سنة 2009 لطرح موضوع رهانات المالية العامة في مواجهة الأزمة، لتحتل بعد ذلك قضايا إنسجام النظم المالية العامة و الشفافية مكان الصدارة ضمن أجندة هذه الندوة الدولية.
و منذ شروع المغرب في بحث أرضية جديدة للتدبير الجهوي، أصبح قطب رحى مجموعة التفكير الدولية هاته، ينصب على تحديد إبراز الأدوار المالية الحقيقية التي يمكن أن تلعبها الجماعات الترابية خدمة للمسلسل التنموي. و هي اليوم و عقب إعلان نتائج الإستحقاقات الإنتخابية الجماعية لرابع شتنبر الجاري، تبحث مع ثلة من الأكاديمين و الفاعلين و الخبراء بكل من المغرب و فرنسا، النسخة التاسعة من هذه الندوات و التي تتمحور حول مقومات الحكامة المالية للمدن.
التدبير المالي للمدن: بين الواقع القانوني و التحديات المستقبلية
إن الجماعات الترابية عموما و الجماعات الحضرية على وجه الخصوص أضحت عبر تطورها شريكا متميزا للدولة و فاعلا استراتيجيا في التنمية، نتيجة لإتساع نطاق اختصاصاتها من خلال تطور توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الحضرية والقروية. و قد أدى ذلك إلى دعم أهمية المدن على مستوى الاستثمار و التشغيل والمساهمة في خلق الثروات و إدارة القرب، و ذلك في أفق الجهوية المتقدمة التي يتطلب نجاحها مدنا قوية ومتكاملة في برامجها ومتضامنة في تدخلاتها و فعالة و ناجعة على مستوى الخدمات التي تقدمها للمواطنين.
فالمد الحضري معطى سوسيولوجي له إنعكاساته المالية، ذلك أن الوزن الديموغرافي للمدن والذي يعكس تمركز أكثر من 60 بالمائة من الساكنة المغربية في الحواضر، إضافة إلى مساهمة الجماعات الحضرية بما يناهز 75 بالمائة من الناتج الوطني الإجمالي، يجعل من المدينة فضاءا ترابيا معقدا على مستوى التدبير و التخطيط، و يفرض هذا المتغير تطوير ميكانيزمات التمويل المالي، و كذا تنسيق السياسات العمومية و الترابية خدمة لرفاهية المدن التي تؤسس بحق للمشروع المجتمعي لمغرب الألفية الثالثة.
و مما يزيد من أهمية هذا المعطى ما أشار إليه الدكتور نور الدين بن سودة الخازن العام للمملكة في تقريره التقديمي خلال هذه الندوة، أن مستقبل الإنسانية الذي سيكتب بالمدن يحتاج إلى التخطيط و التحضير منذ اللحظة الراهنة، و ذلك في إشارة إلى التوجه المدني والحضري الذي يميز عالم اليوم، و الذي يجعل من المدن الكبرى رافعات إقتصادية وإجتماعية و تكنولوجية.
و من هذا المنطلق فإن العقلانية الشاملة تدعو جميع الفاعلين إلى مراعاة واجب ضبط النفقات و الموارد العمومية من خلال تخصيص الموارد المالية بدلا من تقاسم الثروات عبر نهج آليات الحكامة الجيدة في القطاع العام، و ذلك عن طريق تقريب أساليب العمل بهذا القطاع من أنماط التدبير السائدة في القطاع الخاص.
و تجدر الإشارة إلى أن الإشكالات الرئيسية التي تعرضت لها هذه الندوة الدولية، و التي من شأنها بيان ضوابط تمويل التنمية بالمدن، تجسدت في كون التدبير المالي للمدينة كرافعة للتنمية الترابية، ينبغي أن يرتكز على ضوابط الديموقراطية المحلية والتدبير الجيد، و هو ما ترجمته المحاور التي تفردت بها موائد الندوة في محاولة للإجابة عن تساؤلين مركزيين وهما: أي تدبير مالي للمدن؟ و أي نموذج لتمويل التنمية بالمدن؟
و من نافلة القول، أن دستور المملكة المغربية لفاتح يوليوز 2011 قد عمل على تقوية الحكامة المالية للمدن وتعزيز دورها في مجال التنمية الإقتصادية والإجتماعية، حيث أفرد للجماعات الترابية بابا مستقلا، مستحدثا مبادئ و ضوابط جديدة ستؤطر الحكامة المالية للمدن من أهمها تطبيق مبدأ التدبير الحر في إطار المقتضيات المتعلقة بالإختصاص العام، و تحديد مبدأ مراقبة تدبير الأموال و البرامج و تقييم الأعمال وإجراءات المحاسبة، بالإضافة إلى وضع نظام جديد للتضامن بين الجهات و التأهيل الإجتماعي من خلال خلق صندوق للتضامن بين الجهات بهدف التوزيع المتكافئ للموارد والتقليص من التفاوتات بينها.
و تروم هذه المبادئ التي كرسها الدستور إلى وضع إطار للحكامة المالية والمحاسباتية للمدن يتماشى مع تطور إختصاصاتها و يستجيب لمتطلبات خدمة القرب المرتبطة بالسياسات العمومية المحلية.
كما صدر الإطار القانوني المتعلق بالجماعات الترابية و المتمثل في القانون التنظيمي رقم 14/111 المتعلق بالجهات، و القانون التنظيمي رقم 14/112 المتعلق بالعمالات والأقاليم، علاوة على القانون التنظيمي رقم 14/113 المتعلق بالجماعات، و الذي عمل على التفعيل الواضح للأدوار التي ستقوم بها هذه الوحدات الترابية.
هذه المرجعية الدستورية الجديدة للسياسة الترابية بالمغرب ستنصهر في بوثقة نموذج الجهوية المتقدمة الذي أعلن عنه جلالة الملك منذ يناير 2010، لتشكل تحولا بالغ الأهمية في ما يخص الحكامة المالية للمدن و إختيارا تابثا لتحديث هياكل الدولة و تدعيم التنمية المحلية المندمجة حتى تواكب التحولات التي ما فتئت تنال من كيان الدولة و تؤثر على وظائفها، وذلك بشهادة أغلب المتدخلين في هذه الندوة الدولية.
و قد سجل في هذا الصدد البروفيسور ميشال بوفييه Michel BOUVIER رئيس المؤسسة الدولية للمالية العامة و الخبير الدولي في مجال المالية العامة خصوصية المرحلة التاريخية من حيث حجم التمفصلات التي حولت معالم الدولة و المجتمع، و أنه بات من الضروري إعادة النظر في نماذج المؤسسات و المرجعيات القائمة نتيجة لظاهرة العولمة و الثورة الرقمية.
فالسمات الجديدة لهذا النموذج تشرك الفضاءات الترابية في إنتاج النموذج التنموي الأصيل للدولة، حيث لا يمكن الإستمرار في تركيز الدور المحوري للميزانية العامة للدولة على مستوى قيادة المالية العمومية، بل ينبغي الإعتراف اليوم بتضاعف أهمية السلطة المالية خارج حدود الفضاء العام، ذلك أنه بين الفضاء الدولي و الوطني شبكات ممتدة على المستوى الأفقي داخل المدن، و أن الوقت قد حان كي تلعب الحواضر دور المحرك الحقيقي للإنتاج الإقتصادي و تثمين الثروة الوطنية، على إعتبار أن ثلث الثروة العالمية تنتجها 600 مدينة ميتروبولية.
و عليه فإن المدن التي تنمو اليوم و تتعقد مستويات العيش بها تجد نفسها عاجزة عن تمويل الوظائف الجديدة التي تقوم بها، لهذا فهي مدعوة لأن تتأقلم مع الواقع الجديد من خلال جعل ماليتها مستدامة.
فالمدن الكبرى مصدر للإبداع و الإبتكار و رافعة للتنمية الإقتصادية و الإجتماعية، غير أن نقيض هذا الوضع قد يجعلها خلاف ذلك، إذ من الممكن أن تتحول المشاكل التي تعاني منها المدن الميتروبولية إلى مصدر للهشاشة، و ذلك إذا لم تجد الموارد المالية الكافية لدعم بنياتها التحتية وتأهيل مواردها البشرية و توفير فرص الشغل ليدها العاملة المتنامية.
و لهذا فقد شكل التدبير المحلي موضوع إنتقادات متعددة كان آخرها ما تضمنه الخطاب الملكي بخصوص إختلالات التدبير الجماعي لمدينة الدار البيضاء، و ذلك بمناسبة إفتتاح الدورة الخريفية لمجلس النواب بتاريخ 11 أكتوبر 2013. هذه المدينة التي تعتبر الشريان الإقتصادي للمملكة المغربية إنطلقت منها الدعوة الملكية لتبني المفهوم الجديد للسلطة، ويعول عليها اليوم لكي تتحول إلى قطب مالي و وجهة دولية لإستقطاب الإستثمارات في منطقة شمال إفريقيا.
و ما العناية بهذه المدينة الميتروبولية ضمن برنامج تنمية جهة الدار البيضاء الكبرى للفترة ما بين 2015 و 2020 بغلاف مالي يناهز 34 مليار درهم إلا تأكيد على راهنية الحكامة المالية للمدينة، لأن تمويل هذا البرنامج الضخم سيتم من خلال آلية التعاقد التي تساهم فيها هيئات الدولة من جهة و الجماعات الحضرية من جهة أخرى.
و الملاحظ أن المغرب الذي يراهن اليوم على تحويل ست مدن إلى مدن ذكية خلال العشر سنوات المقبلة، و التي هي الدار البيضاء و الرباط و طنجة و مراكش و فاس و إفران، يحتاج من دون تأكيد إلى رفع الرهانات المرتبطة بالتنمية الإقتصادية المحلية، و جعلها على رأس الأولويات التي من شأنها أن تجعل من المدن قادرة على التحكم في الإكراهات التي تطرحها المرحلة الراهنة و المتسمة بالعجز العام و صعوبة التحكم في المديونية، و ذلك من خلال رؤية مندمجة للموارد و النفقات الخاصة بالمدن قوامها الإستقلالية عن مالية الدولة وتبني مقومات الحكامة المالية.
الحكامة المالية للمدن: بحثا عن المقومات الضرورية
إن النموذج الجديد للحكامة المالية للمدن يجب أن يؤسس على مجهود متواصل لتفعيل الأدوات و الآليات المتوفرة حاليا، و ذلك بشكل يدفع كل الجماعات الحضرية إلى العمل بها مثل مخطط التنمية المحلية و التدقيق المالي و تفعيل الإطار المتعلق بالنفقات على المدى المتوسط كأداة للبرمجة المتحركة و المتعددة السنوات، بطريقة تمكن من وضع تطور النفقات المحلية في إطار يلائم واقع المدن و يقترب من الحاجيات الحقيقية للمواطنين.
و تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أن الأنظمة المعلوماتية التي سخرتها الخزينة العامة للمملكة سواء في ما يتعلق بنظام التدبير المندمج للموارد أو بنظام التدبير المندمج للنفقات تشكل آليات فعالة في خدمة تدبير و قيادة المالية المحلية، و ذلك يساعدها على توفير المعلومات المالية و المحاسبية الآنية للمدبرين المحليين، ضمن نظرة شمولية تهدف تقريب منظومتي مالية الدولة و الجماعات الحضرية و القروية، لاسيما في ما يخص المبادئ والإجراءات المحاسبية و الأنظمة المعلوماتية المندمجة.
فالمستقبل يدعو أكثر من أي وقت مضى إلى التفكير الجدي في تخفيف الطابع التعددي للأزمات التي تعرفها مختلف القطاعات، و هو وضع لا يتطلب مجرد إجراءات أولية تعكس النوايا الحسنة في التغيير، بل يستلزم القدرة الخلاقة في إبداع الضوابط التي تحل المشاكل البنيوية في شموليتها عبر منهجية مندمجة ومتيقظة تشمل مختلف السياسات العمومية بعيدا عن إجترار الخطابات التي لا تنسجم مع خصوصيات المرحلة الحالية.
إن هذا الوضع يتطلب بدون تأكيد إستحضار البعد الترابي أثناء وضع السياسات العمومية والتدبير المستدام للموارد المتوفرة من خلال التنسيق بين مختلف الفاعلين من أجل وضع سياسات المدينة على أرض الواقع.
و يستلزم الأمر أيضا الحرص على مشاركة فعالة للقطاع الخاص في تمويل التنمية والإنتاج، و إعتماد التدبير الفعال لإستراتيجيات تنمية الحواضر، بالإضافة إلى تأهيل قدرات المدبرين بالمدن عن طريق رسملة تجربة الدولة في ما يخص التدبير المالي، وكذا العمل على تحويل سياسات المدينة إلى مرجعيات لجلب الإستثمارات الأجنبية.
و إستحضارا للتجربة الفرنسية، تقتضي مقومات الحكامة المالية للمدن إدماج البعد الإقتصادي في الهواجس التدبيرية للجماعات الحضرية من خلال إشراك المقاولة في البعد المحلي من أجل ضمان فعالية السياسات العمومية عبر فاعلية الحكامة المالية للمدينة.
فعلى الرغم من تطور موارد الجماعات الترابية خلال الفترة ما بين 2002 و 2014، إلا أن المتدخلين خلال هذه الندوة الدولية أكدوا أن هذه الموارد لا تكفي حتى لسد نفقات التسيير العادية، كما هو الحال بالنسبة لنموذج مدينة الدار البيضاء التي لا تتعدى مواردها الضريبية ثلاث مليارات درهم، حيث لا تغطي حاجياتها الحقيقية من الموارد المالية والتي تتجاوز 60 مليار درهم.
هكذا يقتضي إنخراط المغرب في مسلسل اللامركزية توضيح العلاقات المالية بين الدولة والجماعات الحضرية و القروية، و ذلك عبر توزيع واضح للاختصاصات والموارد يخول للطرفين العمل كشركاء في تدبير الشؤون المحلية، مع إحترام متغيري الوحدة و التنوع اللذين دعا إليهما جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2014، حين أشار إلى أننا” مقبلون على إقامة الجهوية المتقدمة بمختلف مناطق المملكة، وفي مقدمتها أقاليمنا الجنوبية، بما تتيحه من إحترام للخصوصيات الجهوية، ومن تدبير ديمقراطي من قبل سكان المنطقة لشؤونهم المحلية في إطار المغرب الموحد للجهات”.
فالواقع المغربي يدفع إلى البحث عن الخصوصية ضمن روافد المعطيات التنموية المحلية للبلد. و هو توجه جعل من اللامركزية الترابية في المغرب إختيارا إستراتيجيا من أجل تحقيق التنمية الإقتصادية و الإجتماعية، و ذلك منذ إقرار الميثاق الجماعي لسنة 1976 و الذي سعى إلى التأطير القانوني للجماعات المحلية و توسيع إختصاصاتها و كذا دعم مواردها المالية.
فالمدن المستدامة و الذكية تساهم بنصيب وافر في وضع تصور شامل و مستدام لتطوير القطاع العام و تحسين مستوى النمو الإقتصادي للدولة، و هذا يستتبع إصلاح النظم المالية العامة و المحاسباتية، و تعزيز ميزانية مختلف القطاعات التي من شأنها تحسين مستوى المساءلة و الشفافية و تعزيز المساواة بين الأجيال المتعاقبة.
و مهما يكن من أمر، فإن موضوع الحكامة المالية للمدن ليس من قبيل الترف الفكري، وإنما هو ضرورة لتعاضد جهود مؤسسات الدولة والجماعات الترابية من أجل كسب رهان التنمية المستدامة، كما جاء في رسالة جلالة الملك بمناسبة إفتتاح المؤتمر الرابع لمنظمة المدن و الحكومات المحلية المتحدة بتاريخ 2 أكتوبر 2013، حيث أشار إلى أن رفع الجماعات الترابية لتحديات التنمية المحلية و المستدامة، رهين بقدرتها على تفعيل آليات التعاون والتضامن في ما بينها، وتعزيز قنوات التشاور وتبادل الأفكار و الخبرات، و ذلك من خلال الإنخراط الفاعل في مختلف الأنظمة والشبكات التعاونية و التشاركية سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي.
فهذه الندوة أبانت على أن اللامركزية في المغرب مسلسل متجدد و متطور في جوهره تتولد عنه بإنتظام الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقات المالية بين الدولة و الجماعات الحضرية و القروية، و أن أي إصلاح للمالية العامة ينبغي أن يتم في إنسجام و تناغم مع إصلاح المالية المحلية، لأن لكل من الدولة و هذه الجماعات هدفا مشتركا هو خدمة المواطن المغربي.