لم يكن مونديال قطر 2022 منافسة بين المنتخبات على الفوز بالمباريات والتأهل للأدوار القادمة سعيا للفوز بالكأس وفقط، بل أيضا صراعا عنوانه منظومة القيم، بين بلد شرق أوسطي محافظ ينتمي للعالم العربي والإسلامي، ومجموعة من الدول الأوروبية التي تريد فرض نمط عيشها على منافسة تنظمها “الفيفا”، دون اعتبار لهوية الدولة المستضيفة، بل في الكثير من الأحيان دون مراعاة لقوانينها، وبعد أن بدأ الأمر بالدفاع عن حقوق العمال الأجانب، انتقل بسرعة إلى قضية المثلية الجنسية بشكل طغى على مباريات الدور الأول.
وأتت منتخبات مثل ألمانيا وبلجيكا وهولندا محملة بشعارات داعمة للقناعات والأفكار والقيم الموجودة في المنظومة الأوروبية، وحظي الترويج للمثلية بمساندة من اللاعبين وحتى السياسيين الذين حضروا مباريات تلك المنتخبات، لكن تدريجيا، وبعدما ساهم المغرب في خفض تلك الأصوات بإقصاء بلجيكا عقب الانتصار عليها في دور المجموعات، أضحى أسود الأطلس عناوين بارزة احتلت الصحف والقنوات العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي، بصور وتصريحات تُروج لقيم مغربية يتم التعبير عنها بكثير من العفوية قبل وبعد كل انتصار.
الأم أولا وأخيرا
ولعل أول وأكثر ما لفت أنظار العالم للاعبي المنتخب المغربي بعد كل مباراة، هو ذلك الارتباط الوجداني القوي بالأمهات، خاصة بعد أن قرر المدرب وليد الركراكي أن يطلب من الجامعة جلب العائلات إلى مدرجات الجماهير لتحفيز اللاعبين بشكل أكبر، وبذلك كان يُفسح المجال أمام عدسات المصورين لالتقاط صور رائعة، أظهرت أمهات بملامح وملابس مغربية، وهن يتفاعلن بسعادة كبيرة مع إنجاز أبنائهن غير المسبوق في تاريخ كرة القدم العربية والإفريقية.
لقد ظهرت الأم المغربية في مرتبة أقرب إلى القداسة، حيث كان اللاعبون يهرولون إليها أولا لمعانقتها وتقبيلها وطلب بركتها، فظهر الركراكي وهو يسارع إلى المدرجات باحثا عن يد أمه ليقبلها، وهي السيدة المهاجرة التي ربته على حب بلده الأم حتى وهو في بلاد المهجر، ثم ظهر وهو يقبل رأس والدة اللاعب عبد الحميد الصابري، التي ظهرت أيضا وهي تعانق ابنها وتقبله، في حين ظهر أشرف حكيمي يتسلق المدرجات وينضم إلى الجماهير ليهدي أمه العاملة في إسبانيا قميصه بعد مباراة بلجيكا، أو لينال منها قبلة وكلمة رضى، في مشهد أصبح حديث العالم.
وكانت ذروة مشاهد حب الأم الذي جُبل عليه المغاربة، هي تلك التي التقطتها عدسات الكاميرات بعد انتصار المنتخب المغربي على منتخب البرتغال وتأهله لنصف نهائي كأس العالم، حين ظهر بوفال ووالدته التي نزلت إلى أرض الملعب، وهما يرقصان فرحا بعد إنجاز لم يتوقع أشد المتفائلين أن يصل إليه “أسود الأطلس”، وجابت تلك الفرحة العفوية العالم لدرجة أن الأم المكناسية التي ترعرع ابنها في باريس، تحولت إلى أيقونة انتشرت بشكل كبير عبر وسائل الإعلام وعبر فيسبوك وتويتر.
العائلة.. قيمة القيم
لكن الأم لم تكن الوحيدة التي حضرت في المدرجات لتشجيع أبنائها، فمونديال قطر كان مناسبة كي يُبرز فيها المغاربة قيمة العائلة، التي تُشَكِّل السند والدعم المباشرين لكل لاعب، فكان مشهد يوسف النصيري وهو يعانق والده بحراره بعد التأهل على حساب منتخب إسبانيا، في مباراة كان ابن مدينة فاس أحد نجومها، إذ ظهر الفتى الذي شكك الكثيرون في استحقاقه الذهاب إلى المونديال كمن يشكر سنده في أوقاته الصعبة الذي نزل إلى أرضية الملعب باكيا وهو يرتدي جلبابه المغربي، وما زاد الصورة جمالا هو جواد الياميق الذي قبل رأس الرجل، في مشهد يحيل على قيم الأحياء الشعبية والدروب القديمة في المغرب.
أما ياسين بونو، فتردد أنه لم يسمح إلا لشخصين اثنين بالوصول إلى شباكه في المونديال، الأول هو زميله في الفريق نايف أكرد، الذي سجل في مرماه عن طريق الخطأ في مباراة المغرب ضد كندا، والثاني هو ابنه الصغير الذي رافقه خلال فرحته داخل أرضية الملعب، حيث ظهر وهو يرتدي قفازي والده ويقلده في محاولة التصدي للكرة، وكأن الحارس المغربي المتألق مع نادي إشبيلية يقول للعالم إنه يُحَضِّر خلفه من الآن في الذود عن مرمى المنتخب وفي حب المغرب.
وكانت عائلة حكيمي حاضرة أيضا لمساندته في المدرجات، حيث رافق شقيقه وشقيقته والدتهما في تشجيعه والتفاعل مع أدائه ثم مشاركته الفرحة بعد كل انتصار، لكن المشهد الأكثر طرافة كان هو النقاش الذي جمعه بزوجته الإسبانية من أصل تونسي، هبة عبوك، التي بدت وكأنها تعاتبه بعد الفوز على البرتغال لأنه جاب الملعب
كله قبل أن يأتي إليها ليشاركها فرحة التأهل.
السر في النية الحسنة
كنقول للمغاربة ديرو النية، إذا درتو النية الكرة غتضرب البوطو (العارضة) وتخرج”. كانت هذه هي العبارة الأشهر من بين كل تصريحات المدرب وليد الركراكي، الذي قبل قيادة سفينة المنتخب المغربي في وقت حساس، جرى فيه الانفصال عن المدرب السابق البوسني وحيد خليلوزيتش قبل 3 أشهر فقط من بداية المنافسات، والذي أبعده رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، فوزي لقجع، على الرغم من أنه الشخص الذي حقق التأهل للمونديال، وذلك بعدما أصبحت المشاكل الداخلية مرادفا للنخبة الوطنية.
أتى الركراكي وهو مسلح بالنية الحسنة قبل كل شيء، وعبر عنها أكثر من مرة وهو يدعو المغاربة إلى الوثوق فيه ودعم جميع اللاعبين، وبتلك النية عقد مُصالحة كانت تبدو بعيدة المنال مع لاعبين مثل حكيم زياش ونصير المزراوي وعبد الرزاق حمد الله، وحَوَّل منتخبا متعدد المشارب إلى عائلة موحدة وإلى كتلة بشرية تؤمن بحظوظها وتقاتل حتى آخر نفس من أجل الفوز بالمباريات.
وفي الكثير من المناسبات تحققت نبوءة الركراكي بشكل واضح، حين اصطدمت كرة المنتخب الإسباني في القائم في آخر دقيقة من مباراة ثمن النهائي، ثم حين ردت العارضة كرة المنتخب البرتغالي بعد أن تجاوزت طول الحارس ياسين بونو، ليتأكد الجميع بأن الركراكي لم يكن يتحدث من فراغ، وأن التوفيق يصحبُ من يشتغلون بجدية وبنوايا صافية، وأن الحظ لا يأتي إلا إذا تم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
لا حقد على الوطن
إن كان من أمر أكده المغاربة جميعا في هذا المونديال، فهو أنهم يميزون جيدا بين الوطن وبين خطايا الأشخاص الموجودين في مواقع المسؤولية، لذلك كانت مدرجات الملاعب التي تحتضن مباريات المنتخب المغربي تخص بالمشجعين المغاربة الذين ارتدوا اللونين الأحمر والأخضر والتحفوا بالعلم الوطني، متناسين، في جزء منهم، أن الحياة في بلدهم لم تكن سهلة وأنها دفعتهم للاغتراب بحثا عن لقمة العيش، في حين لم يتوانَ آخرون في الدوحة أو في مدن وقرى المغرب عن الاحتفال بشكل هستيري رغم أنهم يعيشون فترة صعبة لا يرضون فيها عن عمل حكومتهم والعديد من مسؤوليهم.
لكن الصورة الأبرز لقيمة حب الوطن كانت تلك التي مثلها حضور الضابط السابق في الجيش المغربي أحمد المرزوقي، أحد الناجين من معتقل “تازمامارت” الرهيب، أين قضى 18 عاما من عمره بعد المشاركة في المحاولة الانقلابية في الصخيرات سنة 1971 وهو بعد طالب في المدرسة العسكرية باهرمومو، الواقعة التي شارك فيها تنفيذا لأوامر قادته وهو لا يدري أساسا أن الأمر كان يتعلق بمهاجمة القصر الملكي، ليدفع ثمنا لذلك عذابا طويلا وثقه في كتابه “الزنزانة رقم 10”.
المرزوقي، الذي لم يحمل حقدا على وطنه ولم يخلط بينه وبين جلادي سنوات الرصاص الذين اختاروا له ولزملائه مصيرا شديد القسوة، كان في ذلك شبيها بوالدة أشرف حكيمي، المرأة التي عاشت في المغرب حياة صعبة وهي القادمة من مدينة القصر الكبير التي اضطرت للهجرة إلى إسبانيا رفقة زوجها ابن منطقة واد زم المنسية والمهمشة طيلة عقود، حيث لجأت للعمل كخادمة في مدريد لمساندة ابنها في دراسته ومساره الكروي، وحتى عندما أصبح لاعبا لريال مدريد كانت قد غرست فيه حب وطنه الأم الذي اختار تمثيله عن اقتناع.