بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
مسيرة العودة الوطنية الفلسطينية الكبرى ساحاتٌ وتجمعاتٌ، ومراكزٌ ونقاطٌ، وخيامٌ وسرادقاتٌ، ومنابرٌ ومنصاتٌ، ومراكزٌ عائلية وأخرى نقابية، ونقاطٌ مهنيةٌ وملتقياتٌ شبابية، وغيرها من المناطق والعناوين المحددة للتجمع وعقد الأنشطة والفعاليات، وهي لا تتمركز في منطقة بعينها، بل تمتد على طول الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، والتي تتجاوز بمجموعها الخمسين كيلو متراً، تتوزع خلالها المراكز التي ذكرت وغيرها، وقد يكون لبعضها فروع ومراكز في أكثر من مكانٍ، وبمجموعها تشكل النسيج العام لسكان قطاع غزة، الذين يتنافسون فيما بينهم في إبراز أنشطتهم واستعراض فعالياتهم.
لا تكاد تنتهي مشاهد مسيرة العودة الوطنية الفلسطينية الكبرى، ولا تبهت صورها، ولا تتراجع أحداثها، ولا تبلى قصصها، ففيها كل يومٍ أشياء جديدة وإبداعاتٌ كثيرة، وابتكاراتٌ مختلفة، لا تتعلق بالشأن النضالي وحسب، وإنما تطال مختلف جوانب حياة الشعب الفلسطيني، إذ يبدو أنهم نقلوا إلى ساحات المسيرة أمام السياج الفاصل تفاصيل حياتهم اليومية، ومفردات عيشهم وعناوين عملهم، وأشكال اهتماماتهم، وغير ذلك مما يعطي لهذا الشعب العظيم قدراً ومكانةً، ويغرس جذوره في الأرض عميقاً، ويثبت للعدو والعالم كله أن هذا الشعب شعبٌ أصيلٌ، له عاداته وتقاليده، وعنده قيمه ومعتقداته، وحضارته وموروثاته، وتراثه الشعبي القديم الذي لا يبلى مع الأيام، ولا يندثر تحت الاحتلال، ولا ينساه المواطنون في ظل العنت والمعاناة، والضيق والكرب والحصار، فهو الذي يميز حياتهم ويلون تاريخهم.
واستكمالاً للمقال الأول الذي أوردتُ فيه بعض الصور والمشاهد التي واكبت مسيرة العودة، وهي مشاهدٌ كثيرة وعديدة، أضيف هنا اجتماعات المجالس البلدية المحلية لمدن وبلدات قطاع غزة، حيث عمدت بعض المجالس البلدية إلى عقد جلساتها الدورية والطارئة في الساحات العامة، وفيها تناقش هموم ومشاكل بلداتها، والحلول والمقترحات، والمشاريع والمخططات، وغير ذلك مما هو على جداول أعمال المجالس البلدية.
وخلال أيام المسيرات العادية وفي أيام الجمعة، لم تغب فرق الكشافة العامة والدبكة الشعبية، حيث حرصت فرق الكشافة الحزبية وتلك التي تتبع النوادي والمؤسسات على استعراض أنشطتها خلال المسيرة، وتقديم فقراتٍ وطنيةٍ رمزيةٍ، فحضر أعضاؤها بأزيائهم الرسمية، وطبولهم وأعلامهم ومزاميرهم، وقدموا عروضاً مختلفة، سَرَّت عن المشاركين وخففت من عناء رباطهم وطول بقائهم على السياج العازل، وواكبتها فرق الدبكة الشعبية، التي بثت الحماس في نفوس المشاركين، من خلال لوحاتها الفنية المميزة التي قدمها الراقصون بالأزياء الوطنية الفلسطينية، التي تميزها الكوفية والسروال، ومعها الشبَّابة الرائعة والزَجَّال المبدع.
أما جلساتُ السمر والسهر فهي كثيرةٌ وتمتد على طول الحدود، وتأخذ أشكالاً عدة وألواناً مختلفة، كجلسات المجالس العائلية، وتجمعات الشبان الذين يتبادلون القصص ويتطارحون الشعر، إلى جانب حلقات العلم والدروس العامة والندوات والمحاضرات الجامعية، وفيها يلتحق الكثير من المواطنين الفلسطينيين المشاركين في المسيرة، حيث تجهزُ لهذه الأنشطة سرادقاتٌ كبيرة وقاعاتٌ خاصة، تتسع لمئات المشاركين جلوساً على الأرض، أو على كراسي بلاستيكية تبرع أصحابها بإحضارها إلى ساحات المسيرة.
أما العائلات الكبيرة وأهل البلدات والقرى الفلسطينية، فإن لكلٍ منهم سرادقهم الخاص وخيامهم المستقلة التي يلتقون فيها، حيث يتفقدون بعضهم البعض، ويهتمون بحاجاتهم المشتركة، ويصغون السمع إلى كبير العائلة أو مختار البلدة وهو يوجههم ويلقي عليهم التعليمات والإرشادات، ومنها ينطلقون للمشاركة في فعاليات المسيرة، حيث تتباهى العائلات بكثرة المشاركين من أبنائها، وبالحشد الكبير الذي تمكنت من جمعه وتنظيمه.
وعلى ذات النسق أقيمت المهرجانات الوطنية والاحتفالات الشعبية، سواء لتأبين شهداء المسيرة، أو لإحياء ذكرى شهداء سابقين، حيث أحيا المشاركون ذكرى استشهاد أسد حماس، الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وشارك في هذه المهرجانات الطيف الوطني الفلسطيني كله، المشارك في المسيرة والمنظم لها، لئلا تكون الأنشطة والفعاليات حكراً على تنظيمٍ، أو حصراً بجهةٍ دون أخرى.
أما خلال شهر رمضان المبارك، فكانت صلاة التراويح وصلاة الجماعة من أكثر ما ميز أيام المسيرة الوطنية، حيث نصبت خيامٌ كبيرة لتكون مساجد للمشاركين، فيها يؤدون بالآلاف صلاتي العشاء والتراويح، حيث كان يؤمهم فيها أحياناً قياداتٌ وطنية فلسطينية، يتقدمهم إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي اعتاد على زيارة السرادقات، وإمامة المصلين في أكثر من موقعٍ ومكانٍ.
ويسبق صلاتي العشاء والتراويح حملاتُ الإفطار الجماعية التي نظمت بطريقةٍ رائعةٍ، شجعت الكثير من المواطنين، أفراداً وعائلاتٍ للمشاركة فيها، وتناول الطعام المعد لهم من قبل جهاتٍ عديدةٍ، فلسطينية وعربية وإسلامية، تنافست فيما بينها في تقديمه والمساهمة به، ليكون لها دورٌ وسهمٌ في هذه المسيرة الوطنية النضالية الكبرى، التي يشعر كل من اشترك فيها أو شجع عليها أو اهتم بها، بشرفٍ كبيرٍ يحسدهم عليه الكثير ممن فاتهم هذا الشرف.
كثيرةٌ هي المشاهد والصور الجميلة المرافقة لمسيرة العودة الوطنية الكبرى، التي سآتي على ذكرها في مقالاتي التالية، والتي أرى أنها أعطت المقاومة الفلسطينية شكلاً جديداً، وألقت عليها ثوباً آخر قشيباً جميلاً، بديعاً زاهياً، ينسج الشعب خيوطه، ويرسم لوحاته، ويبدع ألوانه، ويتفنن في تشكيله وتأطيره، ليثت أنه شعب حي وقادر، وأنه رغم الموت الذي يتربص به، والقتل الذي يحيق به، والقناصة التي تبحث عنه، والغاز الذي يكاد يخنقه، إلا أن سيبقى متمسكاً بحقه، وماضياً على دربه، ومؤمناً بهدفه، وواثقاً بنصره.