عبد الإله علوان*
الأهم في مسألة الدولة الوظيفية ما ستقوم به مستقبلا من إنتاج نخب و”جماهير” تعتقد بل تؤمن بأنها “شعب”
“فأخذتهم العزة بالإثم”
في سنة 1916 وكانت بوادر انهيار الدولة العثمانية قد ظهرت للعيان، عقد وزيرا خارجية فرنسا وانجلترا اجتماعات مطولة لقسمة تركة الرجل المريض، كما نعتت الدولة العثمانية <=تركيا فيما بعد> في الأدبيات السياسة الغربية، ولما كان نفوذ الدولة العثمانية مرتكز بالأساس في الشرق العربي، فإن اجتماعات سايكس وبيكو الوزيرين اهتمت بتقسيم مناطق الاستعمار بين الدولتين القويتين في العالم آنئذ عسكريا، وكان أهم ما خرج به الاجتماع هو بلقنة المنطقة واختراع دول وظيفية، وبعد وعد بلفور في 1917 بإنشاء كيان يهودي في فلسطين ظهرت فائدة أكثر من البلقنة وهي حماية هذا الكيان…وأيضا الهدف الأساسي هو منع إنشاء دولة قوية في المنطقة … فكان تأسيس لبنان و الكويت وقطر و الإمارات والبحرين والكيان الصهيوني.
فمـا هي الدولة الوظيفية؟
(الدولة الوظيفية هي التي تقوم بوظيفة ما، وتؤدى خدمة ما مؤقتا أو لمدة معينة)، قد يكون هذا التعريف قاصرا ككل التعاريف إذ من الصعب تعريف الدولة الوظيفية في عنوان أو سطر واحد، نظرا “للأعباء” الملقاة على الدولة الوظيفية. وقد لا تظهر إلا بعد سنوات فائدة الدولة الوظيفية بالنسبة لمنشئيها، ولكن الثابت أن الدولة الوظيفية تم اختراعها من الدول الاستعمارية أو ما تسمى بالإمبريالية لتقديم خدمة ما عبر المراحل التاريخية أو لمنع حدوث أمر ما في المنطقة.
لقد اخترعت الكويت لمنع العراق من التمدد بحريا وحتى مذهبيا، كما اخترع الأردن لتقديم خدمة لأسرة معينة وخدمات أخرى كما أخترع لبنان لتقديم هدية للمسيحيين وللتضييق على سوريا الكبرى، والإمارات لتقسيم دولة مسقط وعمان التي صارت سلطنة عمان واندمجت هي الأخرى رغم تاريخها مع البحرين في صف الدول الوظيفية. وقد لعبت هذه الدولة مع الدولة السعودية أدوارا هامة في تحطيم الدول القومية كمصر والعراق وسوريا، ومنعت بكل الطرق بما فيها استدعاء الجيوش الأجنبية لتدمير هذه الدول. وقد نجحت في ذلك نظرا لضيق الأفق والقراءات اللاتاريخية واللاعسكرية للدول القومية آنفة الذكر.
والأهم في مسألة الدولة الوظيفية ما ستقوم به مستقبلا من إنتاج نخب و”جماهير” تعتقد بل تؤمن بأنها “شعب” لبلد أو وطن ما اسمه كذا، وما يترتب عن ذلك من كون هذه الدولة الوظيفية يرتبط بقاءها ببقاء هذه النخبة وبالمناصب السياسية والمالية والإدارية لهذه “النخب” التي يصبح زوال الدولة الوظيفية بمثابة زوال لمناصب هذه النخبة ومصالحها، مما يجعلها أي النخبة تخترع تنظيرات وتكريسات فكرية للحفاظ على بقاء الدولة الوظيفية لأكثر مدة ممكنة حتى تحافظ هذه النخبة على مصالحها ومناصبها.
لكن ما الذي يجعل الدولة الوظيفية في المنطقة العربية تستمر كل هذه السنوات، بعكس الدول الوظيفية التي قامت في بعض الدول: ڤيتنام الجنوبية، ألمانيا الشرقية، أذربيجان الإيرانية؟.
يعتقد أن الأمر راجع للضعف العسكري والفكري الذي أبانت عنه الدول القومية أو الدينية الكبرى مثل العراق ومصر والسعودية وسوريا، بل أن السعودية اختارت الضعف “قوة لها“، فهي لا تريد أصلا أن تكون قوية، أما مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيان فالتردد البورجوازي الصغير كان عنوانا لسياسة هذه الدول و الخشية على النظام أكثر من الخشية على الدولة، لذلك غلبت سياسة الخطاب الإرضائي للغرب؛ وعدم اتخاذ أي خطوة لتقوية الدولة / القومية مما أتاح للغرب / واشنطن التي ورثت مخططات سايكس /بيكو أن تسحق هذه الأنظمة بدون تكاليف تقريبا، وعززت قوة الدول الوظيفية التي أصبحت بديلا للدولة / القطرية / القومية أو الوطنية.
فإذا كان الغرب اضطر لسحق النظام العراقي و الليبي وابتداع حرب أهلية في سوريا، فقد ثم القضاء على مصر و تحويلها إلى دولة فاشلة بمبالغ مالية ليس إلا، وقهر شعبها بالفقر والحاجة والجوع عن طريق وكلاء، أما الدولة السعودية التي يمكن اعتبارها -رغم أن تأسيسها الجديد كان فقط في 1932- وريثة للدولة التاريخية في الجزيرة العربية، فدولة آل سعود اختارت أن تكون دولة محمية فقط، بدون قوة أو جيش أو طموح خارج عن بيع النفط والتجارة و أداء الجبايات للاستعمار الجديد ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهي في العمق السياسي دولة وظيفية سياسيا و قاعدة عسكرية للغرب لتدمير الدول الأخرى، التي قد تكون لها طموحات ما.
فهكذا لعبت أدوارا معروفة في تدمير الأنظمة ذات الطموح القومي/الوطني: مصر؛ العراق؛ سوريا، كما كانت الحاضنة للدول الوظيفية الصغرى: البحرين؛ والإمارات؛ و سلطنة عمان؛ وقطر؛ والكويت؛ والتناقضات التي تظهر أحيانا بين هذه الدولة الوظيفية وتلك هي أمر جزئي يتعلق بالخلافات في أداء الخدمة وكيفية أدائها وزمنها كما في الخلاف الجوهري المتمثل في أداء الوظيفة السياسية للغرب الإمبريالي، وأحيانا لإرضاء بعض القوى الداخلية، لكن الأساس في المسألة أداء الخدمة التي صنعت لها هذه الدول الوظيفية لأطول زمن ممكن، ومما كان له أثر في بقاء هذه الأنظمة: الجانب الاقتصادي وتوفر البترول، والتي تم استمرارها عن طريق رشي الأغلبية من “الجماهير” وحتى الدول، وكذلك الغباء السياسي وانعدام التسلح، وانعدام المؤسسات في الدول القومية / الوطنية، مما ساعد الدول الوظيفية على الديمومة والتوسع السياسي.
وتجرى بشكل محموم عدة محاولات لخلق دول وظيفية أخرى حتى في الدول / الوطنية أو القومية على أساس مذهبي أو جغرافي، كما هو الشأن في المغرب العربي أو في العراق أو في السعودية نفسها وفي سوريا، وذلك باستغلال التناقضات التي تبرز داخل هذه الدول أو بين هذه الأقطار، لخلق كيانات جديدة تحل محل الدول التاريخية، وحتى محل الدول الوظيفية -أو تعززها- التي يبدو أن نهايتها لن تتعدى المرحلة النفطية.
لذلك فإن خروج الدول الوظيفية بمواقف متناقضة كليا مع الثوابت الوطنية والقومية والدينية يبقى مفهوما ومستوعبا، لأن الدولة الوظيفية أنشئت أصلا لذلك، وقد تعذر عليها في مرحلة ما لأسباب تاريخية ولقوة وصعود المد القومي والإسلامي، أن تصرح بمواقفها الحقيقية و الهدف من تأسيسها. وفي مرحلة صعود المد الإمبريالي و الوهن القومي، فإن إعلان المواقف الحقيقية للدولة الوظيفية، لن يكون عصيا أو غير قابل للتفسير والتحليل، بالرجوع إلى التاريخ…القريب، أو بالرجوع إلى القرآن الكريم : «فأخذتهم العزة بالإثم» الآية.
*باحث