أكد المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية (أونسا) أن اختفاء النحل من المناحل ببعض المناطق هو ظاهرة جديدة، مشيرا إلى أن التحريات الأولية استبعدت أن يكون سببها مرض ما.
ويُعد النفوق الجماعي للنحل أمراً مألوفاً للبشر منذ قرون عديدة، إذ تحفل المراجع التاريخية بأخبار حول العثور على خلايا نحل خاوية، أو عن أسراب نحل غير قادرة على الطيران تزحف أسفل خلاياها.
وقد عزا العلماء حتى العقود الأولى من القرن الماضي، الأمر إلى فيروسات مجهولة عجزوا عن تحديد ماهيتها. لكن لغز اختفاء النحل ونفوقه استمر في التفاقم بشكل متصاعد، جارفاً في طريقه أنواعاً عديدة حول العالم انقرضت بالفعل، أشهرها “نحل العسل البريطاني الأصلي” ذي اللون البني الداكن.
أدت هذه الصدمة المروعة بعلماء الأحياء في الغرب، وتحديداً في بريطانيا، إلى تسريع بحوثهم منذ منتصف القرن الماضي في سبيل تأصيل سلالات جديدة من النحل قادرة على مقاومة الأمراض والفيروسات المجهولة، بعدما لاحظوا قوة السلالات المهجنّة (الناتجة عن تزاوج ذكور نحل محلية وملكات من أصول أخرى) التي تمكنت من كسب معركة البقاء التي خسرها نحل العسل البريطاني. وبعد ثلاثة عقود من البحث الدؤوب المتواصل، تمكن العلماء من إنتاج “نحلة باكفاست” سمراء اللون، التي تتميز بقوتها وإنتاجها الغزير من العسل وقدرتها على مقاومة الآفات السائدة آنذاك، ما حدا بمربي النحل إلى إطلاق اسم “النحلة الخارقة” عليها.
لكن، بعد مرور عقدين ونيف على ظهور “نحلة باكفاست” الخارقة، وتحديداً في عام 2006، تعرض نحل العسل إلى كارثة أخرى مصدرها آسيا هذه المرة: “عثة فاروا المدمرة” التي عاثت فساداً في خلايا وتجمعات النحل في أوروبا وأميركا، والتي شاع مع قدومها مصطلح “انهيار مستعمرات النحل” تعبيراً عن الكارثة غير المسبوقة التي سببتها، والتي عدّتها منظمة الأمم المتحدة “تهديداً للزارعة العالمية”.
ومنذ ذلك الحين، والأمور لا تبدو جيدة للنحل في عالمنا. ففي الولايات المتحدة خسر مربو النحل 40 بالمئة من المستعمرات الخاصة بالنحل المنتج للعسل عام 2018. وفي روسيا أعلنت 20 منطقة عن نفوق جماعي للنحل، فيما نفقت ملايين أخرى من هذه المخلوقات الصغيرة في جنوب إفريقيا، كما أبلغت بلدان مثل كندا والمكسيك والأرجنتين وتركيا وأستراليا ولبنان عن حالات مماثلة في العامين الماضيين؛ ما حدا بمنظمة الأمم المتحدة إلى إطلاق تحذير منتصف العام الماضي، من مغبة تعرض النحل لتهديد متزايد جراء الأنشطة البشرية، فضلا عن آثار تغير المناخ. وأوضحت المنظمة الدولية أن من شأن اختفاء النحل القضاء على محاصيل مثل القهوة والتفاح واللوز والطماطم والكاكاو، وغيرها. ذلك أن هذه الحشرة مسؤولة عن تلقيح 75 بالمئة من نباتات العالم المثمرة، وأكثر من 130 محصولا رئيسا يعتمد عليها البشر.
لغز اختفاء النحل في العالم
ومنذ عقود ينكب الباحثون المتخصصون على دراسة لغز اختفاء النحل ونفوقه الجماعي، فخلصوا إلى أن هلاك مستعمرات النحل لا يرتبط بسبب واحد، بل بجملة عوامل منها الطفيليات ومسببات الأمراض وتدهور البيئة واستخدام المواد الكيميائية.. والأهم من هذا وذاك “عثة فاروا”؛ تلك النقطة الحمراء الصغيرة بحجم رأس دبوس التي تلتصق بجسم النحلة فتمتص سائلها اللمفاوي (المعادل للدم لدى البشر) ما يؤدي إلى إضعاف مناعتها. ومع انخفاض مناعة النحل تنتشر الأمراض بسهولة داخل خلاياه الرطبة والدافئة بحكم الاحتكاك الدائم بين أفرادها، لتتحول بيئة مثالية لتشكل الأمراض. وقد طورت شركات الصناعات الكيميائية زهاء عشرين مبيداً مضاداً لهذه العثة، لكن مربي النحل يترددون في بث هذه السموم داخل الخلايا التي يمتلكونها.
في الولايات المتحدة خسر مربو النحل 40 بالمئة من النحل المنتج للعسل عام 2018 وفي روسيا أعلنت 20 منطقة عن نفوق جماعي للنحل فيما نفقت ملايين أخرى من هذه المخلوقات الصغيرة في جنوب إفريقيا
وإلى جانب “عثة فاروا”، يُلقي الباحثون اللوم في اختفاء نحل العسل على المبيدات والمواد الكيميائية التى تستخدم لقتل الآفات. فالاستخدام المكثف للمبيدات الحشرية المعروفة تحت اسم “نيونيكوتينيود”، والتي فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على استخدامها، تؤثر على الجهاز العصبي المركزي للنحل ما يؤدى إلى شلله ونفوقه. وقد لعب هذا المبيد دوراً رئيساً في انخفاض أعداد النحل، الذي ما إن يتعرض له حتى ينسى طريقه إلى الخلية (يشبه إلى حد ما أعراض الإصابة بمرض ألزهايمر)، ما ساهم بشكل مباشر في تفشي ظاهرة “اضطراب انهيار المستعمرات” التي يتخلى من خلالها نحل العسل عن خلاياه تلقائيا.
أمام هذه المعضلة الكيميائية بدأت مختبرات بحثية تابعة لمؤسسات غذائية عملاقة العمل على تطوير علاجات غير كيميائية، تستند إلى تقنية “تعديل الحمض النووي الريبي” للنحل. وتتلخص هذه العلاجات في استهداف خلايا العثة وتعطيل أحد أشكال مورثاتها بعد امتصاصها ماء سكر “معالج حمضياً”، سبق وأن أُعطي للنحلة الحاملة لها. وثمة مشروعات بحثية أخرى تشرف على تنفيذها وزارة الزراعة الأميركية تهدف إلى تأصيل وتربية نحل مقاوم للعث اعتماداً على “علم الأحياء الجزيئي” بحيث يتم التحكم في بعض أنماط سلوك النحل وتعديلها عند الضرورة. ويستند العلماء في أبحاثهم تلك إلى الإنجاز الهائل الذي تحقق عام 2006 والمتعلق بفك الشفرة الوراثية (الجينوم) لنحل العسل. ويبقى الهدف الأسمى لهذه الأبحاث هو تأصيل سلالة نحل معدلة وراثياً، تتميز بهدوء الطبع والقوة ووفرة الإنتاج والقدرة على الاستمرار في مواجهة تحديات التغير المناخي.
ووسط هذه الجهود البحثية المحمومة (الكيميائية والأحيائية) لإيجاد سلالة خارقة جديدة من نحل العسل، برزت أصوات معارضة تُعارض كل ما سبق من أفكار، وتتبنى مقولة إن المختبرات العلمية تساهم في تعقيد المشكلة ولو بغير قصد، وتنتقد الاعتقاد الخاطئ بقدرة البشر على التحكم في الطبيعة.
ويكمُن الحل في نظر المنادين بهذه الأفكار، في الحفاظ على صحة النحل وتغذيته بصورة جيدة وإفساح المجال للتطور الطبيعي كي يأخذ مجراه. ويعترف أصحاب هذه النظرية باحتمال فقدان مربي النحل معظم خلاياهم خلال عقد أو أكثر فيما لو ترك الأمر للتطور الطبيعي، لكنهم يؤكدون أن الاصطفاء والتكيف البيئي سينتخب في النهاية نحلاً طبيعياً قادراً على المقاومة، إذ لا يمكن تأصيل نحل أفضل، إلا بواسطة النحل نفسه.
ورغم كل سبق، تتبقى مسألة مهمة في الظل لا يُلقي لها معظم المهتمين بشأن النحل بالاً، وتؤثر كثيراً في بقائية نحل العسل؛ إنها “الزراعة لغرض الصناعة”، وهي حقيقة يُجمع عليها العديد من العلماء والخبراء ويتجاهلونها في آن. فقبل قرن من اليوم، كان تلقيح المحاصيل يتم بواسطة النحل البري، قبل أن تتحول المزارع العائلية إلى مشاريع زراعية ضخمة ذات نطاق تجاري، تكتفي بنوع واحد من المحاصيل لا تتوافر فيها الزهور سوى بضعة أسابيع خلال السنة. حتى الأعشاب السائبة في تلك المشاريع والتي يعتمد عليها النحل في تغذيته ما تبقى من العام، يُقضى عليها بواسطة مبيدات الأعشاب. لذا تراجعت أعداد النحل في هذه الأماكن، وبات لزاماً على أصحاب هذه المزارع التجارية استئجار خلايا نحل من شركات متخصصة تنقله بالشاحنات الكبيرة من مسافات بعيدة.
وأبرز مثال على ذلك السلوك الاستغلالي ما يحدث لدى مزارع اللوز في “سنترال فالي” بكاليفورنيا الأميركية. إذ تُنقل كل عام 1.6 مليون خلية نحل عبر الولايات المتحدة خلال شهري فبراير ومارس، لتلقيح 60 مليون شجرة لوز في هذه المنطقة المسؤولة عن إنتاج نحو 80 بالمئة من هذا المحصول عالمياً، والذي يُقدر حجم تجارته بزهاء ثلاثة مليارات دولار.
ويقول حماة البيئة إن تلقيح أشجار الفاكهة يعد عملاً مجهداً للنحل ويتسبب في استنزاف قدراته على إعداد الجيل التالي، على مرّ حياته البالغة ستة أسابيع فقط، ويجادلون بالقول إنه لو أرادنا نحن البشر المساهمة في إنقاذ النحل من محنته، فما علينا إلا أن نفكر بمنطق ما هو أفضل للنحل.. وليس ما هو أفضل لنا.