*عبد الله العلوي
روى بعض القدامى أن ساحة جامع الفناء، كانت جزء من مسجد ضخم انهار جزء منه في زمن ما، وتحولت بعد ظرف زمني إلى ساحة مليئة بالمطاعم الصغيرة البسيطة لعامة الناس. وأن كثبان الأتربة كانت تملأ المكان قبل أن يتم تنظيفها، وجعلها ساحة بدون بناءات، وفجأة مع تأسيس حي البغاء “عرصة موسى” من طرف الفرنسيين وبعض “الأعيان” في حوالي 1920 بدأت الساحة تتشكل من جديد وتمتلئ بالحلقات، فبعد حلقات “الفقهاء” و “الوعاظ” الذين كانوا يهددون مستمعيهم بجهنم، ظهرت حلقات الحكواتي و”العيساوي” أو مروضي الأفاعي، ثم بدأت فرق الأغاني، يصاحبها أحيانا “مطرب” أو حتى “مطربة” من الذين لا يخافون الجحيم، تجد لها مكانا في الساحة. وبدأ بيع الخمر في المقاهي التي أنشئت حول الساحة. كان ضمن الذين عملوا في الحلقات الغنائية أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينات من القرن الماضي شاب نحيف يعمل في الأصل “ضابط إيقاع” في الحلقة الغنائية، إذ كان ضاربا أو عازفا على “الدربوكة” لأن أغاني الأربعينات، كانت تفرض أن يتقن العواد غناء عبد الوهاب وأمثاله، ولم يك للشاب النحيف الفنان حميد الزاهير دراية بها. وقد ظل ينفي أنه كان يمارس في الحلقة والغناء بساحة جامع الفناء لأن سمعة المشتغلين فيها وروادها كانت سيئة عند المراكشيين.
والواقع أن الفنان الزاهير، كما اشتهر عند الناس، لم يكن يكتفي بممارسة الحلقة بل كان أيضا، يرافق الملاهي المتنقلة التي تُعرف بـ “السيرك“، و يغني منفردا لإقناع الجمهور بشراء بطاقات لربح الأواني المنزلية قبل أن يتحول فجأة إلى مطرب شعبي لا بأس بشهرته، تدعوه العائلات لأعراسهم وحفلاتهم بمقابل.
والفنان حميد الزاهير هو ابن السيدة فاطمة، امرأة “مكافحة” عملت في الأصل ضمن مطربات “مطعم” أو محل الشاميات، الذي يقع في حي ضبشي أو درب ضبشي – والاسم كما يلاحظ تركي أو شامي ( = دبشي) و هو الضابط الذي جلبه أحمد المنصور الذهبي 1578-1603، لتدريب الجيش على استعمال المدفعية- و صاحب ملهى الشاميات أيضا كانت له علاقة بتركيا أو الشام، فقد تعلم العزف على آلة القانون في بلاد الأتراك، وعند عودته أسس مطعم الشاميات، ثم حوله إلى قاعة سينما بعد إغلاق محلات الخمور في المدينة القديمة سنة 1956 تاريخ الاستقلال، وقد تحولت مطربات هذا المطعم مع تقدم السن إلى أعمال أخرى كبيع الخبز و”الحريرة” وإقامة مطاعم صغيرة، أو الخياطة.
والغناء كانت تمارسه أحط الفئات الاجتماعية، إذ لم يك عملا مقبولا، إلا أن الجمهور لم يبخل على هذه الفئات بالإعجاب، فتحولت إلى أعلى السلم الاجتماعي مع التطور الاقتصادي و الاجتماعي الذي عرفه المغرب عامة، وكان حميد الزاهير يواجه منافسة قوية من مطربين آخرين، وعلى رأسهم العباسي حسن الذي سجل أسطوانات، وكان يعتبر “معلم” للعود، وقد اشتهر بأغنياته التي أصبحت على كل لسان خاصة: “آمولات الشانطة الغادية ناشطة..لله فين غادية ديني معاك“.
لكن الفنان حميد الزاهير ابتكر أسلوبا جديدا فقد أضاف إلى الغناء الرْشَايْشِية والمَازْنِية ولا يعرف من أوحى له بذلك، ويزعم البعض أنه “المختار عمي” الذي كان فنانا بالفطرة، يبدع أغاني من كلماته ومن كلمات الغير أو من الألفاظ المتداولة “هو للا ها هو تاني“، وسرعان ما انتقل من فريق حميد الزاهير وطبع عدة أسطوانات بأغانيه المنفردة وصار مطربا شهيرا في الدار البيضاء.
كان لأسماء أعضاء فرقة حميد الزاهير رنين غريب، فبالإضافة إلى المختار عمي هناك “مهري” و “قنبر” و”اكَعير“، وكانوا كلهم يعملون في حرف تعتمد على الاشتغال باليد كالدباغة، فكانت أيديهم قوية، حكى أحدهم أنهم عندما ذهبوا إلى اليابان، تعجب الجمهور الياباني من صخب ورنين أيديهم، اندفع البعض ليتأكد أن ذلك الإيقاع ينبعث من أيدي طبيعية وليس من آلة أو شيء ما بينها.
كانت أغنية الزاهير تعتمد على “الكورس” النسائي و الرجالي المردد، الذي يعتمد على عمليتين اثنتين، الأولى: إعادة تكرار الكلمات بنفس الجملة الموسيقية، والثانية للرجال فقط تختتم أحيانا، بمجرد نغمة / جملة مثل: ” واها واها واها” وفي الأغلب بعبارات مثل : “الصينية والرشوق وماكلة اللوز ” أو : “هادي ساعة مباركة فاش تلاقينا“. وعملية الميزان بالأيدي، تتميز بتصفيق ثنائي، يتبعه ثالث بطريقة معاكسة، ثم رابع : “يزطم” (=ضربات الأيدي بطريقة عرضية) ثم تختتم الجملة بكلمة ما، منطقية أو غير منطقية.
عاش حميد الزاهير في مرحلة تميزت بمنافسين كبار في مراكش، فبالإضافة إلى شبيهه في الأسلوب الغنائي العباسي حسن، كان هناك محمد علي، والعربي الكواكبي، وعبد الله عصامي، وغيرهم، لكن إبداع نسق غنائي جديد، متميز بالجماعية، هو الذي جعله يكتسب جماهير خارج مراكش وخارج المغرب كذلك.
واجهت حميد الزاهير في البداية مشكلة الكلمات، فكان أن التقى العربي بن فايدة. الذي كتب له في حوالي 1961 أغنية، سارت على كل لسان، وهي من أشهر الأغاني التي تغنت بالملك الراحل الحسن الثاني 1961-1999 “راه مراكش يا سيدي كله فرح ليك…. راه مراكش ياسيدي كله يهتف ليك..بقدومك يا بطل يا الحسن الثاني..“.
وقد عاتب البعض حميد الزاهير على ذكر مراكش وحدها، فغنى في نفس الفترة أغنيته “الوطنية” الثانية ” فالرباط آسيدي فالرباط آياما في الرباط مولاي الحسن ياك نصرو ربي/ طنجة وتطوان راه هزو لعلام فالرباط اسيدي..” وذكر جميع المدن المغربية. كانت هاتان الأغنيتان فاتحة “خير” على المغني الجديد وهما الوحيدتان في هذا المجال. وبعد مدة ستظهر له أغان و أغاني عديدة أهمها: “للا فاطمة عار ربي غير كليمة” والأغنية الفريدة: “أش داك تمشي للزين وأنت يا راجل مسكين ماعرفتيش أش داني..لا” ثم “ نعيمة ولا بلاش غيرها مايحلاش“، كما تغنى بسعاد والسعدية وعائشة و..و..و، فكلما تنبه إلى اسم نسائي لم يذكر في أغنية سابقة طلب من “الشاعر” أن يكتب له أغنية تمجده / تتغنى به.
لكن حكاية كاتب الكلمات العربي بن فايدة تستحق الوقوف، والذي يظهر أن الكثيرين لا يعرفونه، فهناك اعتقاد شبه عام أن حميد الزاهير، هو كاتب الكلمات لكونها كلمات بسيطة أو حتى ساذجة، كما أن الأسطوانات التي كان يصدرها الفنان حميد الزاهير كانت تحمل: كلمات وألحان وغناء حميد الزاهير، ونادرا ما أشير إلى العربي بن فايدة.
كان العربي بن فايدة أنيقا وكان لا يخرج من منزله إلا إذا لبس أفضل ثيابه، وكان تاجرا في مواد التنظيف وكان يكتب الكلمات حسب الطلب، فلا علاقة له بالإلهام أو بعبقر الشعر، وكان لا يعرف الخليل أو ميزان الذهب إلا أن كلماته الساذجة والتي لا تخلو من صدق على كل لسان وانتشرت بأصوات غنائية أخرى في الحفلات والملاهي… لكنه ظل اسما شبه مجهول بالنسبة للجمهور العريض، وكان متواضعا لم يحاول قط أن يظهر أنه كاتب الكلمات حتى بعد أن لاحظ أن كثيرا من الأسطوانات لا تضم اسمه، كما أن مذيعي الربط في الإذاعات يقدمون أغاني حميد الزاهير بدون اسم صاحب الكلمات…
وليس الأمر يتعلق فقط بالكلمات، فالألحان أيضا ليست دائما لحميد الزاهير، فالفنان كان يعتمد على الأهازيج القديمة، لاستنباط هذه الألحان أو الألحان الشعبية المتداولة ، إلا أن هناك أغنيتين: الأولى “للا فاطمة” هي من ألحان أحمد جبران، وهو فنان كان مشهورا في الخمسينات من القرن الماضي وهاجر في الستينات إلى أمريكا كما يشاع، ثم محمد بن عبد السلام الذي يُنسب له لحن: “اش داك تمشي للزين” لكن ظل هذا الأمر غير معروف عند العموم ، فقد ارتبط الكل بالفنان حميد الزاهير فلا صاحب الكلمات ولا الملحن ولا “المازنية” وجدوا مكانة لدى الجمهور، فالكل كان ينسب هذه الأغاني للفنان الزاهير، باستثناء الأستاذ عباس الجيراري، الذي نسب أغنية “الزين” في رسالته للدكتوراه حول الفن الشعبي، الذي أكد أنها لإحدى الفرق المغربية التي تغني “الدقة المراكشية” وأشار إلى أغنية: “اش داك تمشي للزين وانت يا رجل مسكين ماسمعتيش اش داني..” ونسي أن يذكر الفنان الراحل حميد الزاهير، علما أن “الدقة المراكشية” تتميز باختلاف شاسع عن أغاني الزاهير ، ذلك أن الدقة المراكشية تبدأ بشكل رتيب. وبالدفوف لا بالأيدي، ولا وتريات، وبكلمات تمجد الأولياء والصالحين، خاصة السبعة رجال بمراكش، وتتطور ببطء شديد إلى أن تصل إلى لحظات الختام التي تتميز بالسرعة، و”مايسترو” الدقة هو حامل” الطارة” (=بندير ضخم) الذي يسير الفرقة ويتحمل المسؤولية في حال نشاز أو ختام سيء. إلا أن أغنية الزاهير بالنسبة لكورس المازنية قد تعتبر إحدى روافد الدقة وإن كانت مختلفة ، فالدقة تتميز بالجدية بينما “المازنية” يتميزون بالمرح واللامعقول في كلامهم. لذلك اختصرت “الدقة” عند البعض إلى فرق المازنية الذين حولوا الدقة إلى مرح ورقص، وأدخلوا الآلات النحاسية حتى اختلط الأمر على البعض.
لقد غنى حميد الزاهير للأسماء النسائية فاطمة ونعيمة وعائشة وسعاد، وغنى “للكناوي” وعن “الوطن” و”للأيام“: (اليوم ليلة الخميس الفرحة عندي فدارنا) ، وغنى أيضا عن “الزمن“، فهو كان على موعد معها في الساعة 12 -لا نعرف أ زوالا أم ليلا؟ .. غالبا زوالا- لكن دولاب ساعته كان سريعا لعطب ما أو تصور هو ذلك، إذ يقول 🙁 دارت معايا لتناش وهدي لتناش ودقيقة .. ومكانتي زربات .. واش الدقيقة ماعندها قيمة..) ..
*محام بهيئة مراكش