عصام حجلي/ استاذ مبرز في اللغة العربية وادابها
تشكل الكتابة الإبداعية في سداسية الأيام الستة لأميل حبيبي منعطفا حاسما ومهما في مسار تطور الرواية العربية، إذ تخلصت الرواية من شرنقة القيود الكلاسيكية المعروفة في الرواية العربية، التي ارتبطت كثيرا بالنسق المحفوظي في الكتابة .إن سداسية الأيام الستة ثورة وتمرد على كل القوالب الروائية الجاهزة، التي تضغط على رقاب المبدع، وتضيق من هامش حريته. إنه نص روائي يتقنع بأشكال التراث السردي. ويمتح من نهج روائيين عالميين (ماركيز، بورخيس.). أو لنقل مع د/سعيد علوش ، إنه نص جامع، أو إنه جامع الأنواع. لأن كتابة اميل حبيبي هي كتابة تقوم على الانسجام المفكك̜ في ست لوحات فنية تجمعها قاسم مشترك، وهم مشترك هو الدفع بشخصيات النص الروائي إلى انتفاضة مرجوة.لمحاولة محو مأساة حزيران 1967. إن رهان الروائي هو التعبير عن مأساة الإنسان الفلسطيني. وهو يكتوي بنار معاناة وجودية داخل وخارج الأرض المحتلة.بهدف الدفع بشخصيات الرواية لا إلى الدق على جدران الخزان ، بل بالدفع بهم إلى مساءلة الذات للخروج من عنق زجاجة الاحتلال، وذلك لن يتم إلا بانتفاضة شخصيات الرواية على مسرح النص الروائي.
يتموضع النص / المقطع السردي – قيد الدراسة والتحليل – في مسار السداسية ضمن اللوحة / اليوم الرابع من الأيام الستة، الذي رسم له المؤلف عنوانا دالا على عمق مأساة الإنسان بين رغبة البقاء في الأرض وتحدي كل الصعاب والوقوف في وجه المحتل، وبين الفرار والهروب من القضية” العودة”. بين هذا وذاك يدين اميل حبيبي كل أولئك الذين ركبوا القضية على ظهورهم،وفروا من الدفاع عنها، والتشبث بالأرض والهوية وحق العودة اللامشروط إلى حضن الوطن الأم، إنه دافع نوستالجي في العودة مجددا إلى أرضه.فالإنسان الفلسطيني كغيره من الناس تربطه علاقة حميمية مع المكان الذي أبصر فيه النور ، لكن الأمكنة التي يعرفها الإنسان لا تبق على حال دائم ،بل يعتريها التغيير والتحول من حال إلى حال “هذا هو سوق الباشورة – لا -/هذا هو سوق العطارين… لم يكن الزقاق على هذا الضيق يوم المسيرة …” فالأمكنة غير ثابتة من جانب الإحساس النفسي تجاهها ،والاحساس النفسي للشخصية تجاهها فالسنين وأيادي البطش والغطرسة تطمس معالم الارتباط السابق بالأمكنة .وبذلك يخيم جو الدهشة والصدمة على الشخص العائد إلى الأرض .وهو يتنقل بين عدة أمكنة داخل الأرض بمعية أحد أصدقائه، إن الإنسان الفلسطيني وهو خارج الأرض يعيش حالة مأساوية أخرى عنوانها اللامكان أو كما يعبر عن ذلك الراحل محمود درويش بقولة” كلما أخيت إلى عاصمة رمتني بالحقيبة”.
يتأسس بناء النص الروائي على مكونات نصية تمنحه سمة الروائية، وهي مكونات لا يقوم النص الروائي إلا بهاإذ تشكل دعائم الكتابة الروائية، وفي طليعة هذه المكونات نجد المتن الحكائي للرواية، الذي تجسد أحداثه شخوص تلعب أدوارها الروائية على فضاء النص الروائي في ذهن المؤلف وتتحرك هذه الشخصيات في إطار زمان ومكان يحددهما الروائي سلفا.
إن رواية” سداسية الأيام الستة” رواية لا تهتم بالأحداث، فهي رواية في الرواية، كتابة في الكتابة la mise en abyme تعتمد على الإيهام الروائي، ومن هنا ستتجه دراستنا إلى البحث عن الخيط الناظم اللوحات الروائية والمتمثل في عناصر الفضاءl’espace. فكيف يمكننا دراسة الفضاء الروائي في هذا المقطع السردي؟وما هي تجليات الفضاء النصية (داخل النص)؟
غني عن البيان، أن الفضاء أعم من المكان، إذ يتكون الفضاء من مجموعة من الأمكنة الموصوفة داخل النص الروائي. ان للفضاء بعدا شموليا. وهو يقوم بدور مهم داخل بناء الرواية، حيث يعمل على تأثيث الفضاء العام الذي تدور فيه أحداث النص.بتحديد الإطار العام الذي تتحرك فيه الشخصيات. إنه شبيه بخشبة المسرح، التي يتحرك فوقها شخصيات المسرحية.
يمكن تقسيم الفضاء، داخل هذا المقطع الروائي، إلى فضاء نصي Espace textuel وفضاء واقعي أو جغرافي espace Géographique.
يتميز الفضاء الأول أي الفضاء النصي، بالحضور الطباعي داخل النص الروائي، أي الحيز الورقي الذي امتدت فيه الكتابة على الورقة. ونلاحظ أن هذا النوع من الفضاء يعادل صفحة ونصف. ان الفضاء هنا هو فضاء له وجوده في النص بما هو قوة وضعية.
ولئن كان الفضاء النصي يتميز بوجوده بالقوة، فإن الفضاء الواقعي له وجود بوصفه ميدانا مرجعيا في الواقع، إنه بهذا المعنى يكون معادلا للفضاء وهو جوليا كرستيفا J.Kristivaمرتبط بدلالاته الحضارية. إن الفضاء الجغرافي رصد لتمثلات الكتابة السردية في الواقع. واقع المؤلف، وهو فضاء معلوم في ذهن المؤلف ويعمل هذا الفضاء على إيهام المتلقي بواقعية المحكي وتقودنا قراءة المقطع السردي إلى مجموعة من الأمكنة الموجودة في الواقع، والتي لها دلالات رمزية وشحنات عاطفية. ويمكن رصد هذه الأمكنة كالتالي:
المكان دلالته الواقعية والرمزية
– اليمين سوق العطارين جهة/له خلفية سياسية
– اليسار جهة: له كذلك خلفية سياسية: حبيبي شيوعي في توجهه السياسي
– حيفا مدينة فلسطينية/التاريخ-الأرض-الهوية-التعلق.
– القدس القدسية-خلفية دينية-ارتباط تاريخي وروحي.
– الكويت النزوح-الهروب-الادانة.
– الزقاق الضيق-الهامش-الاقصاء
– دكاكين مغلقة السجن-الاحتلال –التضييق على الحرية…
– داخل السور الرواج – عنصر الحركة والدينامية -الحياة…
على سبيل الختم:
صفوة القول، إن رواية “السداسية” تثير كثيرا من الأسئلة. تطرحها للنقاش، أكثرمما تجيب عنها فهي في عرضها لمأساة الإنسان الفلسطيني حافظت على نهاياتها المفتوحة. الغير المعلنة لنهاية محددة وواضحة لشخصيات النص الروائي ، وقد شق إميل حبيبي لنفسه انطلاقا من هذه الرواية طريقة جديدة في تشكيل الكتابة الروائية ،التي أضاف من خلالها منحى جديدا على مستوى بنية النص الروائي ،إنها انتفاضة مؤلف على الورق ،فجر فيها حبر القلم وكانه دم داخل النص .هذه هي وظيفة الأدب الذي يعبر أحيانا عن ما يعجز عنه المرء في الواقع ،هكذا عبر اميل حبيبي عن ادانته و رفضه لموقف الهاربين من القضية .هنا يتحاور إميل حبيبي مع ˝سفينة ˝جبرا إبراهيم جبرا، التي أدان فيها أولئك الفارين من القضية إلى إيطاليا (عصام السلمان ووديع …) كما يتحاور كذلك مع رواية الأيام الستة للروائي والسوسيولوجي حليم بركات ، الذي تنبأ بحسه السوسيولوجي وخبرة ظواهر الواقع بوقوع حرب الستة أيام قبل أن تحصل على أرض الواقع .