قانون التقاعد العابر للحكومات: “صفقة القرن” أم لعنة اجتماعية مؤجلة؟
عبدالله مشواحي الريفي
في دهاليز الحوار الاجتماعي المتعثر، وبين مطرقة الأرقام المقلقة وسندان الغضب المتصاعد، يظل ملف إصلاح نظام التقاعد بمثابة “العلبة السوداء” التي تحمل أسرار أزمة هيكلية تهدد مستقبل أجيال من المغاربة. فبينما تحذر التقارير الرسمية من اقتراب شبح الإفلاس الذي يخيم على صناديق التقاعد، تتصاعد الأصوات النقابية محذرة من أي حلول ترقيعية تأتي على حساب الحقوق والمكتسبات.
إن الحديث عن إصلاح التقاعد لم يعد مجرد رفاهية أو خيارًا قابلاً للتأجيل، بل ضرورة ملحة تفرضها الاختلالات المتراكمة والضغوط الديموغرافية المتزايدة. فمع ارتفاع متوسط العمر وتراجع معدلات الولادات، يتقلص عدد المنخرطين النشطين مقابل ارتفاع أعداد المتقاعدين، مما يضع صناديق التقاعد تحت ضغط مالي هائل ينذر بانهيار وشيك إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية.
ففي قلب كل أزمة اجتماعية تلوح في الأفق، يقبع ملف إصلاح التقاعد كقنبلة موقوتة، تُخيف كل حكومة وتؤرق كل فاعل اجتماعي. لعقود طويلة، ظل هذا الملف بمثابة “الفخ السياسي” الذي يتجنبه الجميع، متحولًا إلى ما يشبه “القضية الفلسطينية” للسياسات الاجتماعية في المغرب: مؤجل دائمًا، مُلح باستمرار، ويُفجّر الصراع في كل مرة يُطرح فيها للنقاش.
واليوم، مع حكومة عزيز أخنوش، يطفو على السطح من جديد “قانون التقاعد العابر للحكومات”، الذي يحمل في طياته طموحًا لتحقيق ما لم تستطعه الحكومات المتعاقبة. فهل تنجح هذه الحكومة في ترويض “الوحش النقابي”، وفرض إصلاح يضمن ديمومة الصناديق، أم أن “لعنة التأجيل” ستطاردها كما طاردت من سبقها؟
الملف المؤجل.. والإرث الثقيل
تُدرك حكومة أخنوش تمامًا أن الخوض في ملف التقاعد أشبه بالسير على حقل ألغام. فالذاكرة الجماعية للمغاربة لا تزال تختزن وقائع الهدر وسوء التدبير، كما وثقها تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية. التقرير لم يكن سوى مرآة لكارثة تدبيرية: استثمارات فاشلة، صفقات عقارية مشبوهة، ضبابية في التسيير، ومدخرات تقاعد أجيال تبخرت في مشاريع لم تُثمر إلا العجز والتدهور.
هذا الإرث الثقيل جعل من أي إصلاح تقوده الدولة محل تشكيك، بل وشكّل سببًا رئيسيًا في تعنت النقابات ورفضها لأي “حل سهل” يكون على حساب الأجراء. فمطالب الإصلاح لا تبدأ من رفع سن التقاعد أو زيادة الاقتطاعات، بل من المحاسبة أولًا، واسترجاع الأموال المنهوبة ثانيًا، ثم التفكير في حلول جذرية تضع مصلحة الأجيال القادمة فوق كل اعتبار.
نقابات غاضبة.. وشعارات تتجدد
في سياق اجتماعي مشحون، تصرّ المركزيات النقابية على رفع سقف المطالب، ورفض أي مساس بـ”الحقوق المكتسبة”. شعارات مثل: “لا لرفع سن التقاعد”، و”لا لزيادة الاقتطاعات”، تحولت إلى عنوان معركة شرسة ضد ما يُعتبر “تحمُّلًا للطبقة العاملة لأخطاء غيرها”.
بعيدًا عن أي ترف تنظيري، تُدرك النقابات أن معركة التقاعد هي معركة وجودية. فبقدر ما تسعى الحكومة إلى إنقاذ الصناديق، ترى النقابات أن ما يحدث ليس إلا محاولة لـ”تحميل الفقراء نتائج فساد الأغنياء”، في تكرار لسيناريوهات أليمة عايشها الموظفون والعمال في ملفات سابقة.
رائحة “صفقة القرن” تُخيّم على المشهد
رغم غياب أي تفاصيل رسمية واضحة، فإن ما يدور في كواليس الحوار الاجتماعي يوحي بأن هناك شيئًا يُطبخ بهدوء. الأحاديث عن “اتفاق شامل” تتسرب من هنا وهناك، وتثير شبهة وجود “صفقة القرن” التي قد تُبرم بين الحكومة وبعض النقابات.
هذه الصفقة – إن صح وجودها – قد تقوم على معادلة بسيطة: تمرير إصلاح تقاعدي بمقابل مكاسب رمزية للنقابات، تسمح للأطراف بالقول: “لقد انتصرنا”. لكن هل تكفي هذه التنازلات الشكلية لتمرير إصلاح بهذا العمق؟ وهل تقبل القواعد العمالية أن تُساوم على مكتسباتها مقابل تحسينات طفيفة في ملفات أخرى؟
السيناريوهات الأربعة: كل خيار بثمنه
في ظل هذا التوازن الدقيق، تبرز أربعة سيناريوهات رئيسية لمستقبل هذا الملف:
1. الفرض بالقوة
قد تختار الحكومة مسار الحسم عبر تمرير القانون في البرلمان، متجاهلة الرفض الشعبي. هذا السيناريو، وإن كان سريعًا، إلا أنه محفوف بالمخاطر، إذ قد يخلق موجة غضب غير مسبوقة تفتح الباب أمام احتجاجات واسعة.
2. الصفقة المشبوهة
من الممكن أن تسعى الحكومة إلى تفكيك وحدة الصف النقابي عبر تقديم عروض مغرية لبعض التنظيمات، في محاولة لتمرير “نصف إصلاح” لا يُرضي أحدًا. هذا الخيار يُضعف الحركة النقابية، ويُفقدها المصداقية.
3. المفاوضات الشاقة
ربما يكون السيناريو الأكثر عقلانية. مفاوضات تمتد، وربما تُفضي إلى توافق شامل يؤسس لإصلاح متوازن يُراعي القدرة الشرائية، ويُحمل الدولة والباطرونا جزءًا من الكلفة.
4. التأجيل القاتل
وهو الخيار الكارثي الذي يُؤجل المشكلة إلى حكومة لاحقة، ليُضاف “قانون التقاعد” إلى قائمة الملفات المتفجرة التي تنتظر انفجارها في أي لحظة.
السياق لا يرحم.. هل هي الفرصة الأخيرة؟
ما يجعل هذا الإصلاح أكثر استعجالًا من ذي قبل، هو السياق الاقتصادي والاجتماعي. فالمغرب يمر بمرحلة دقيقة: ارتفاع الأسعار، تدهور القدرة الشرائية، تفاقم البطالة، واستياء شعبي يزداد يومًا بعد آخر.
أمام هذا الواقع، أي قرار يمس جيب المواطن – حتى لو كان مبررًا من الناحية المالية – قد يتحول إلى شرارة انتفاضة. لذلك، فإن حكومة أخنوش مطالبة باتخاذ قرارات جريئة… ولكن ذكية.
قانون التقاعد العابر للحكومات: فرصة أم لعنة؟
إن القانون المرتقب ليس مجرد تعديل إداري، بل هو امتحان حقيقي لقدرة الدولة على استرجاع الثقة. فإذا نجحت الحكومة في إشراك الجميع، وربط الإصلاح بالمحاسبة، وتوزيع التكاليف بعدالة، فإننا أمام لحظة تأسيسية يمكن أن تُنقذ النظام التقاعدي لعقود قادمة.
أما إذا تم تمرير القانون بمنطق القوة أو التحايل، فإن النتائج قد تكون عكسية: احتجاجات، فقدان الثقة، وتنامي مشاعر الظلم.
سيناريوهات قاتمة وأرقام مفزعة:
تشير الدراسات والتقارير المتخصصة إلى سيناريوهات قاتمة إذا استمر الوضع على ما هو عليه. فبدون إصلاحات هيكلية، ستجد صناديق التقاعد نفسها عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المتقاعدين في غضون سنوات قليلة. هذه التوقعات المفزعة تثير مخاوف مشروعة لدى شريحة واسعة من المواطنين، الذين يخشون على مستقبلهم وعلى حقوقهم التقاعدية التي أفنوا سنوات من عمرهم في سبيلها.
وتكشف الأرقام عن حجم الأزمة المتفاقمة. فالعجز المالي في بعض صناديق التقاعد بلغ مستويات مقلقة، وتتزايد الحاجة إلى ضخ المزيد من الأموال لسد هذا العجز، وهو ما يضع عبئًا إضافيًا على المالية العمومية وعلى المنخرطين الحاليين. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات جامدة، بل هي مؤشرات خطيرة تنذر بعواقب اجتماعية واقتصادية وخيمة إذا لم يتم التعامل معها بحكمة ومسؤولية.
تجارب دولية.. دروس مستفادة وحلول ممكنة؟:
بالنظر إلى تجارب دول أخرى واجهت تحديات مماثلة في أنظمة التقاعد الخاصة بها، يمكن استخلاص بعض الدروس والعبر التي قد تفيد المغرب في معالجة هذه الأزمة. لقد لجأت العديد من الدول إلى مزيج من الإجراءات الإصلاحية، بما في ذلك رفع سن التقاعد تدريجيًا، وتعديل نسب الاشتراكات، وإصلاح آليات الحوكمة والاستثمار في صناديق التقاعد، وتنويع مصادر التمويل.
إلا أن استنساخ تجارب الآخرين بشكل حرفي قد لا يكون الحل الأمثل، نظرًا للخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي تميز المغرب. الحل الأمثل يكمن في تبني مقاربة شاملة ومتوازنة، تأخذ في الاعتبار أفضل الممارسات الدولية وتراعي السياق الوطني، مع إشراك جميع الأطراف المعنية في صياغة وتنفيذ الإصلاحات.
المطلوب: شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية:
إن تجاوز “لعنة” إصلاح التقاعد المؤجل يتطلب شجاعة سياسية حقيقية ورؤية استراتيجية واضحة المعالم. فالإصلاحات الضرورية قد تكون مؤلمة على المدى القصير، وقد تثير بعض الاحتجاجات والاعتراضات، ولكن تجاهلها سيكون أكثر تكلفة على المدى الطويل.
يتطلب الأمر من الحكومة الحالية امتلاك الجرأة الكافية لفتح هذا الملف الشائك بكل شفافية ومسؤولية، وتقديم مقترحات إصلاحية جريئة ومستدامة، مع الانخراط في حوار اجتماعي حقيقي وبناء مع النقابات والفاعلين المعنيين. كما يتطلب الأمر من النقابات إبداء قدر من المرونة والانفتاح على الحلول الممكنة، مع الحفاظ على الدفاع عن حقوق ومصالح المنخرطين والمتقاعدين.
إن مستقبل نظام التقاعد في المغرب على المحك. فهل تنجح حكومة أخنوش في قيادة “الجراحة المؤلمة” لإنقاذ هذا النظام الحيوي، أم أن هذا الملف سيظل قنبلة موقوتة تهدد استقرار المجتمع واقتصاده؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مصير أجيال قادمة من المغاربة.
ما بعد 1 ماي.. هل من مفاجآت؟
في الأفق القريب، تتجه الأنظار إلى فاتح ماي، الموعد الرمزي الذي قد يُشكل منعطفًا حاسمًا. فهل نشهد إعلان “الصفقة الكبرى”، أم تتفجر الخلافات؟ هل سيفاجئنا عزيز أخنوش بـ”خطة تاريخية” تُنهي عقودًا من العبث بهذا الملف، أم يختار المراوحة في المنطقة الرمادية؟
الجواب ليس بعيدًا… ولكن المؤكد أن “قانون التقاعد العابر للحكومات” لن يُنسى بسهولة، سواء كـ”منجز تاريخي”، أو كـ”لعنة جديدة” تضاف إلى سجل التأجيلات القاتلة.