120 كيلومتراً من الصمت المدوّي… أيت بوكماز تكشف الوجه الحقيقي للتنمية “المنسية”
في قلب الأطلس، حيث لا يصل صدى الشعارات الحكومية، انطلقت مسيرة استثنائية، ليس بالحناجر بل بالأقدام… من جماعة أيت بوكماز إلى عاصمة الإقليم أزيلال، قطع السكان أزيد من 120 كيلومتراً مشياً، حاملين وجعهم في صمت صلب، أقوى من أي تصريح.
المشهد ليس من أرشيف الستينيات، بل من مغرب 2025، مغرب المشاريع الكبرى والتحول الرقمي وكأس العالم 2030، لكنه أيضاً مغرب الفجوات الصارخة.
المسيرة لم تكن احتجاجاً عادياً، بل كانت إعلان إفلاس صريح لسياسات الدولة تجاه العالم القروي. كيف يعقل أن تبقى قرى بأكملها خارج تغطية الهاتف والأنترنت، بينما يُطلب من المواطنين الولوج إلى خدمات رقمية للحصول على الدعم، أو حتى مجرد وثائق إدارية؟ كيف يُسوّق لمسار رقمي طموح في الوقت الذي لا يستطيع فيه مواطن بسيط إجراء مكالمة طارئة أو تلقي استشارة طبية عن بعد؟
أيت بوكماز، ببساطة، عرّت واقعاً أراد له البعض أن يبقى مدفوناً تحت لغة الإنجاز الورقي. لا ماء صالح للشرب، لا شبكة هاتف، لا طرق معبدة، ولا مرافق صحية أو تعليمية تحفظ كرامة الإنسان. ورغم عشرات البرامج والمخططات، تبقى الحصيلة على الأرض أقرب إلى العدم.
ما يزيد الألم أن هذا الصمت المزمن يحدث رغم توجيهات جلالة الملك الواضحة، التي لطالما وضعت العالم القروي في صلب أولويات التنمية، منذ إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، إلى الدعوات المتكررة بربط المسؤولية بالمحاسبة. ولكن ما جدوى التوجيهات، إذا تحولت إلى مجرد “أدبيات” لا تُترجم على الأرض؟
أليست المهزلة أن يُجبر المواطن على التنقل مئات الكيلومترات من أجل وثيقة أو تسجيل في برنامج دعم؟ أليس من العبث أن تستمر وزارة بعد أخرى في الحديث عن تغطية شاملة، في حين لا تزال قرى بأكملها “خارج التغطية”؟ أليس من الحق أن يُطرح السؤال: أين صرفت الميزانيات؟ من راقب؟ ومن تواطأ بالصمت؟
ما وقع في أيت بوكماز لا يجب أن يُختزل في “أزمة محلية”، بل هو مرآة لواقع تتقاسمه مئات الجماعات القروية من سوس إلى الريف، ومن درعة إلى جبال الشرق. واقع يتناقض كلياً مع أهداف النموذج التنموي الجديد، ويتحدى الخطاب الرسمي عن مغرب الإنصاف المجالي.
أما الخطير، فهو استمرار الجهات المسؤولة في تزيين الواقع بتقارير وخطابات، في تجاهل تام لصوت الشارع، وصورة المواطن الذي يمشي يومين أو ثلاثة ليصل إلى مقر الإدارة أو المستشفى. المواطن الذي لا يطالب بتقنية الجيل الخامس، بل بهاتف يعمل، وطريق سالكة، وماء لا يُحمل على الدواب.
هذه المسيرة ليست فقط مشياً على الأقدام، بل تقدّمٌ على الدولة في اختبار المصداقية. لقد قرر مواطنون أن يسيروا حين توقفت التنمية، أن يتكلموا حين اختارت المؤسسات الصمت، وأن يرفعوا مطالبهم دون وسطاء أو انتهازيين.
فهل من مجيب؟
أم أن صرخة أيت بوكماز ستُضاف إلى أرشيف النسيان، في انتظار المسيرة القادمة، من قرية أخرى، تسير خلف الشعارات… ولا تصل.