الإدارة الترابية المغربية على مفترق الحسم: عصر جديد للصرامة وإعادة الهيكلة
تعيش الإدارة الترابية المغربية اليوم مرحلة غير مسبوقة من التحولات الداخلية، مع بروز مؤشرات واضحة على كسر قواعد النفوذ الراسخة لعقود داخل بعض الولايات والعمالات. المعطيات المتوفرة تكشف أن وزارة الداخلية بصدد الشروع في حركة شاملة لإعادة ترتيب مراكز القرار، في خطوة تهدف إلى ترسيخ الانضباط وتعزيز الفعالية.
وتشير المعطيات القادمة من ولاية جهة مراكش آسفي إلى أن شرارة هذه التحولات انطلقت من هناك. فمنذ تسلم الوالي الجديد مهامه، ظهرت إشارات جلية تؤكد أن إعادة الهيكلة الداخلية باتت قرارًا نهائيًا، خاصة إعفاء مدير الديوان، الذي كان يعتبر أحد أبرز الشخصيات المؤثرة في الولاية خلال السنوات الماضية.
المشهد الأخير في حفل تنصيب عامل إقليم الحوز أظهر حجم التوتر داخل محيط الولاية؛ إذ وجه الوالي حديثًا حادًا ومباشرًا لمدير ديوانه الذي حضر متأخرًا، في إشارة قرئت على نطاق واسع كخطوة عملية لإنهاء مرحلة “النفوذ الخفي”. مصادر متعددة تؤكد أن هذا التوتر لم يكن وليد اللحظة، بل تراكمت أسبابه نتيجة أخطاء إدارية وبروتوكولية متكررة، وتدبير غير محكم لقضايا حساسة.
ولا يقتصر الوضع على مراكش، بل يعكس نموذجًا أوسع لما يحدث في الإدارة الترابية على الصعيد الوطني. فقد استقر عدد من الأطر القدامى في مواقع حساسة لفترات طويلة، تجاوزت لدى بعضهم عقدًا كاملًا، ما أتاح لهم نسج شبكات مصالح متشابكة تشمل منتخبين، ومقاولين، وفاعلين اقتصاديين، أحيانًا على حساب مصالح الإدارة ومصلحة المواطن.
تؤكد التقارير الداخلية أن هذا التمركز القوي خلق اختلالات كبيرة في سير مصالح الإدارة، مع تكرار الأخطاء وتوسع فجوات التواصل بين الولاة الجدد والمصالح الداخلية. كما تعطل العديد من المشاريع الاستثمارية بسبب ضبابية المساطر وتداخل النفوذ الشخصي بالمصالح العامة.
وتشير مصادر مطلعة من وزارة الداخلية إلى أن “ورشة التطهير” لم تعد قابلة للتأجيل، خاصة مع اقتراب الاستحقاقات التشريعية لسنة 2026، والتي تتطلب إدارة ترابية يقظة، فعالة، ومستقلة عن الولاءات القديمة. ويبدو أن المرحلة المقبلة ستشهد سلسلة إعفاءات وتنقيلات وإعادة توزيع المسؤوليات داخل الولايات والعمالات، بهدف ضخ دماء جديدة، وضبط الإيقاع الإداري، وإزالة مراكز النفوذ غير المبررة.
كما تؤكد هذه المصادر ضرورة تدخل المفتشية العامة للإدارة الترابية في فتح ملفات ظلت معلقة لسنوات، تتعلق بتدبير الصفقات العمومية، واستغلال الملك العام، ومنح التراخيص الاستثنائية، والعلاقة مع المنتخبين، وإدارة المشاريع الكبرى، لضمان مصداقية الإصلاح قبل الانتقال إلى مرحلة شاملة لإعادة هيكلة المساطر الإدارية.
المعطيات تؤشر إلى أن الوزارة تستعد لإعادة رسم خرائط القوة داخل الإدارة الترابية، مع اعتماد مقاربة صارمة لتقييم الأداء وتفكيك شبكات الولاءات القديمة. وإذا تم تنفيذ هذه الخطوات بالشكل الصحيح، فقد تشكل نقطة تحول حقيقية لوقف النفوذ غير الرسمي الذي سيطر على القرار الترابي لعقود طويلة.
إن ما يشهده اليوم عدد من الولايات والعمالات يؤكد أن لحظة الحسم قد اقتربت، وأن الإدارة الترابية المغربية على أعتاب مرحلة جديدة تهدف إلى ترسيخ الكفاءة، وتفعيل الشفافية، وإعادة التوازن للمسار الإداري الوطني بعد سنوات من التراكمات التي أعاقت التنمية ونمت علاقات الظل داخل المؤسسات.