سيظل المفكر الفذ المهدي المنجرة، حاضرا، رغم غيابه الأبدي، في أذهان المغاربة قاطبة، لأنه بكل بساطة يحمل قلب إنسان وروح تتماهى مع انتظارات المثقف الأصيل، المؤمن بضرورة استثمار الثقافة في بوثقة المصالح العامة التي تشكل في بعدها الغايات والأهداف المتوخات من الإشتغال بالهم المعرفي في شمولية أبعاده، إنه يجسد روح العالم المخلص لعلمه، التواق إلى الرفع من قيمة أمته العربية على وجه عام، والمغربية على وجه خاص، نبراس أضاء دياجي الحداثة التي ارتضاها كفكر وكمشروع سياسي / اقتصادي واجتماعي، في وقت انشغل فيه المثقفون بسفاسف السياسة وشذرات المعرفة الضحلة التي لا تقيم وزنا للإنسان العام، بقدر ما توليه للإنسان السادر في متاهة الإرتزاق والوصولية، وذلك ديدن عبدة الثقافة المدجنة والمسخرة لصالح العبث، وإذ يمثل المهدي النقيض الذي تظل روحه حاضرة، متربصة، مستفزة، مثيرة للجدل، تحمل على عاتقها مسؤولية الرقي والتقدم الإنسانيين.
غياب المهدي المنجرة، المفكر، عملاق الرؤية الموصوفة ب ” الثقابة ” في علم المستقبليات، لا يضاهى إلا بغياب عمالقة الفكر الإنساني وأصفياءه، المتجذرة همومهم وأعمالهم في قلب قضايا مصير الإنسان التواق إلى استحداث معرفة جديدة في شكلها وجوهرها تسعى إلى مقارعة التخلف، وانهيار القيم المعرفية بكل أبعادها.
لقد عاش المهدي المنجرة رحمه الله، زمانا تحدرت فيه أخلاق المفكرين، كما السياسيين، إذ نذر نفسه لخدمة الإنسان، بدل خدمة مصالحه الشخصية، ونزوات البعض التواقة إلى إدلال المواطن وقهره عبر تسلق سلم المسؤولية الإدارية، لقضاء مآرب تشوبها كثير من تفاصيل التآمر والدوس على كرامة الآخر خدمة لطبقة من المتغولين، المعولين على الرياء والمداهنة والإسترزاق.
ويقينا، أن المغرب فقد رجلا استعصى عن الترويض والتشكل، فإذا كان غياب هذا الصرح الفكري الكبير سيريح الكثيرين، فإن حضوره الفكري ومنهجه في استخلاص مؤشرات القوة والضعف على المشهد السياسي / الإقتصادي والإجتماعي، في مستقبل العالم العربي، سيظل حاضرا في الندوات العلمية والملتقيات الدولية، وعلى رحاب منابر الجامعات التي تشرح هموم الإنسان، لبناء مستقبله من خلال محاورة المفاصل الفكرية لمستقبل البشرية، وذلك من خلال العمل على تجذير مفهوم العلاج الحداثي لمظاهر الإستلاب في كل مجالاته، وهو المشروع الذي تبناه الفقيد، واشتغل على تثبيت نشره عبر إسهاماته ومحاضراته بأكبر جامعات العالم.
المودعون اليوم، يقفون إذن أمام شخصية تتميز بالفرادة، وتأصيل المعرفة الحديثة، شخصية طاولت في علم الإجتماع ” ابن خلدون ” و ” دوركهايم “، والباحث السكاني، الإقتصادي، السياسي ” توماس روبرت مالتوس “، وتحدت غيرهم من علماء الإقتصاد والإجتماع والسياسة، لتنجز وتبحر بالإنسان المقهور في عوالم التساؤلات الكبرى، حول مصيره ومستقبله.
بتوديعهم للمنجرة، يشيعون اللحظة شخصية رائدة، تقمصت كونية التفكير، واستعاضت عن وجودها الفيزيائي، بوجود فكري شمولي، تجاوز حدود الذات، لينخرط في معانقة هموم الإنسان في أبعادها الكونية، ما أبعده فكريا عن احتراف الحزبية الشوفينية المذلة للفرد، والمستغلة لطاقاته، المنحازة إلى بطانة الممجدين من ساسة القرب من الغنيمة، اللاهثين وراء تدليس الحقائق .
أبدا، لم يطأطئ المهدي هامته للزوابع التي تمترست في طريقه، ولم تنل منه غواية السلطة والتسابق إلى كراسي المسؤولية، فقد عاش ناسكا، متعبدا في محراب حقيقة المعرفة التي ارتضاها مذهبا له، وراكمها في مساره بحثا عما يحقق أمن وسلامة وصحة وغذاء وسكن وتعلم الإنسان وكرامته.
لقد استطاع الفقيد أن يتخلص من همومه الذاتية، ليؤول إلى قهره، وعندما يتحول المرء إلى فكرة، فإن كل وسائل الإغراء تتحول لديه إلى خرافة .. واهم من قال: إن المهدي المنجرة قد مات !!!