الناس سواسية في كل شيء، هذا بمنطق العدل والأخلاق، وبمنطق البيولوجيا، هل تتساوى أدمغتهم أيضا؟
قد يبدو السؤال السابق بسيطا للغاية، لكنه يخفي أكبر دافع للقيام بإحدى أغرب سرقة علمية في تاريخ البشرية.
مند القدم كانت ظاهرة الذكاء محط اهتمام الفلاسفة، قبل أن تدخل مختبر الأطباء، فيبدأ أول بحث عصبي بيولوجي في عام 1860 بتحليل دماغ عالم الرياضيات الشهير “كارل فريدريش جاوس” بحثا عن مكان الذكاء في الدماغ وماهيته البيولوجية. ومن الطبيعي أن يدفع هذا “قناصي الأدمغة الذكية” إلى ترصد فرصة تشريحها والفوز بالسبق العلمي في الكشف عن أحد أسرار الدماغ الأكثر غموضا.
لن يكون ألبيرت أينشتاين سوى الشخص التالي على لائحة رصد الأدمغة الذكية، لكن وصيته لعائلته بإحراق جثته منعا لأي “تقديس” لعظامه بعده، كما قال، دفع أحد قناصي الأدمغة الذكية إلى سرقة دماغ أحد أكبر عباقرة القرن العشرين. وهذه السرقة الفريدة تعد شديدة السرية ولا يعلم بها كثيرون، حسب (futura-sciences) التي نفضت الغبار عن القصة من جديد بعد قرابة 67 عاما عن رحيل أينشتاين.
أحد الأدمغة العبقرية الكبيرة
في 14 مارس 1874، شهدت مدينة أولم (Ulm) الألمانية ولادة أحد أشهر العلماء في التاريخ، لدرجة أن اسمه أصبح كلمة شائعة لوصف شخص موهوب: ألبرت أينشتاين.
أينشتاين هو عالم فيزيائي ألماني، ويُعدّ من أكثر علماء الفيزياء تأثيراً في القرن العشرين، وما تزال اكتشافاته العلمية تنير مسير التطور العلمي في العالم، وتتعزز يوميا بذلك التطور.
حصل أينشتاين على جائزة نوبل للفيزياء في عام 1921م وذلك لتفسيره ظاهرة التّأثير الكهروضوئي. ويُعدّ من العلماء الموهوبين والمبدعين؛ لما قدمه للبشريّة من إسهامات واكتشافات في الفلسفة والفيزياء، ومن أبرز هذه الإنجازات اكتشافه: ظاهرة التّأثير الكهروضوئي. النّظريّة النّسبيّة الخاصة. الحركة البراونيّة. صيغة تكافؤ الكتلة والطاقة…
وُلِد أينشتاين في مدينة أولم التي تقع في ولاية بادن-فورتمبيرغ، وتوفي في الولايات المتحدة الأمريكيّة في نيوجرسي في عام 1955م عن عمر يناهز 76 عاماً، وقد كانت وفاته نتيجة لإصابته بنزيف داخلي؛ نتيجةً لحدوث تمزّق بسبب تمدد الأوعية الدمويّة.
يعتبر أينشتاين أحد الأدمغة الكبيرة التي بصمت مسيرة البشرية، وسجلت اكتشافاته حضورها القوي في مختلف مناحي الحياة، ووضعته تصنيفات الذكاء من بين الذين اعتلوا قمة هرم عباقرته.
بين يدي القناص “توماس هارفي”
في 18 أبريل 1955، توفي ألبرت أينشتاين في مستشفى برينستون. وبعد إنجاز مهمته الأولى، قام “توماس هارفي”، الطبيب الشرعي والمسؤول عن تشريح الجثة، بعمل مجنون: سرقة دماغ الفيزيائي! لتكون هذه بداية قصة لا تصدق جديرة بفيلم هوليودي …
توفي أينشتاين خلال نومه حوالي الساعة 1 صباحًا. وفي نفس اليوم، على الساعة 8 صباحًا، تم إرسال جثته إلى المشرحة للتشريح. وكان “توماس ستولتز هارفي” هو المسؤول في ذلك الصباح، حسب (futura-sciences).
الطبيب البالغ من العمر 43 عامًا، تخرج من جامعة ييل (Yale) رفقة “هاري زيمرمان”، أخصائي أمراض الأعصاب من أصل ليتواني، والرائد في دراسة اضطرابات الجهاز العصبي المركزي.
بشكل منهجي، باشر الطبيب الشرعي تشريح جثة أينشتاين. تحسس أحشاءه، وفتح قفصه الصدري واكتشف أن الدم قد غمر جميع أعضائه. ودون سبب وفاة أعظم عبقري القرن العشرين: تمزق الشريان الأورطي البطني.
بالطبع انتشر الخبر في الصحف في جميع أنحاء العالم: “مات أينشتاين”، كما جاء في عنوان صحيفة دايلي برينستونيان. و”الدكتور أينشتاين، أب القنبلة، مات”، كما يمكن أن نقرأ في الصفحة الأولى من “دنفر بوست”.
دماغ العبقري سرق!
كان ألبرت أينشتاين قبل وفاته قد أعطى تعليمات واضحة جدًا حول نهاية حياته: “أريد أن أحرق، حتى لا يستطيع أحد أن يعبد عظامي”. لكن عظام العبقري ليست هي ما يهم توماس هارفي، لكن دماغه نعم.
متتبعا بشكل حرفي وصارم توصية والده الأخيرة، عارض “هانز”، الابن الأكبر لألبرت أينشتاين، أخد أي عضو من جثة والده بعد تشريحها. لكن تم تجاهل أمنية أينشتاين الأخيرة مرتين: مرة من طرف طبيب عيون ألبرت أينشتاين الذي سرق عينيه، ومرة ثانية من طرف توماس هارفي.
وسط سكون عميق خيم على مشرحة برينستون في ذلك اليوم، يقوم الطبيب الشرعي، توماس هارفي، بحلق شعر أينشتاين الأشعث الذي كان إحدى مميزات صورته الخالدة، وقام بنزع فروة رأسه ليكشف عن جمجمته، وباستخدام المنشار الجراحي، يقطع الطبيب عظم الجمجمة ليصل أخيرًا إلى مبتغاه: الدماغ. ليقوم في الأخير بنزع العضو بعناية فائقة.
وبالطبع فهذه العملية التي طالت رأس أينشتاين، تمت بسرية كبيرة من طرف الطبيب الشرعي، فهي تخالف توصية أينشتاين وتعليمات ابنه الصارمة.
تهريب الدماغ المسروق وتقطيعه
أول شيء قام به هارفي هو وزن دماغ أينشتاين: يزن 1230 جرامًا، وهو وزن أقل بقليل من المتوسط الذي يبلغ 1300 جرامًا للرجل البالغ. ثم أخذ عدة لقطات من الصور للدماغ.
بعد ذلك قام هارفي بتقطيع الدماغ إلى قطع صغيرة! 240 قطعة على وجه التحديد.
حمل قطع الدماغ المحفوظة في قنينات مليئة بالفورمالديهايد في صندوقه، ثم سافر إلى فيلادلفيا.
تمتلك جامعة بنسلفانيا أداة نادرة في ذلك الوقت، وهي مشراح ميكروطوم (microtome). مثل آلة تقطيع اللحم، يتيح الميكروطوم صنع شرائح دقيقة جدًا (بمستوى ميكرومتر) من الأنسجة البيولوجية المجمدة أو الثابتة.
بعد تقطيعها، قام هارفي بحفظ شرائح الدماغ الرقيقة كل واحدة بين شريحتي زجاج دقيقة تسمح بمشاهدتها تحت المجهر.
ثلاثة أشهر من العمل كانت ضرورية لهارفي لإعداد 12 مجموعة من مائة شريحة لكل واحدة منها.
أبقى على بضع قطع فقط سليمة.
أرسل “هارفي” بعض القطع إلى زملائه في علم الأمراض. دماغ لامع مثل دماغ هارفي يجب أن يؤكد التميز والاهتمام بالعلوم!
التنقيب عن ذكاء أينشتاين
بعد الإعداد المنهجي للشرائح، ينتقل توماس هارفي إلى التحليل المنهجي لدماغ أينشتاين ويبدأ في كتابة تقرير بملاحظاته.
كان هارفي يأمل في تحقيق اكتشاف مثير للاهتمام بعد عام من العمل.
الصحافة متحمسة، ونقرأ عنوانا لصحيفة نيويورك تايمز في 20 أبريل 1955 يقول: “مؤشر مفتاح يتم البحث عنه في دماغ أينشتاين”. والمؤشر المفتاح الرئيسي المطروح هو تحديد موقع الذكاء، وهو بحث عصبي بيولوجي بدأ في عام 1860 بتحليل دماغ عالم الرياضيات الشهير “كارل فريدريش جاوس”.
كان مقال نيويورك تايمز، أول ما سيعلم عائلة أينشتاين بسرقة دماغ عبقريها. لكن هارفي تمكن من إقناع هانز أينشتاين بترك العينات له لمواصلة البحث، وهو ما قبله على مضض.
واصل هارفي بحثه المنهجي وتحليله العلمي، غير أن النتائج كانت مخيبة للآمال. فهارفي لم يكن خبيرًا في الدماغ، ولم تكن معرفة الدماغ في ذلك الوقت تسمح بتمييز دماغ أينشتاين عن باقي أدمغة البشر العاديين. لذلك لم يعثر هارفي على شيء مميز يستطيع أن ينال به شهرة تبرر سرقته.
وبسبب ذلك لم يسلم هارفي التقرير إلى مركز أينشتاين الطبي في فيلادلفيا الذي طلبه. كما أن نتائج زملائه تأخرت أيضا في الوصول.
صحافي يخرج قصة الدماغ المسروق من طي النسيان
لأكثر من 20 عامًا، وقع دماغ أينشتاين المسروق في طي النسيان. لم يظهر أي منشور علمي حوله، ولا يبدو أن أحدا اهتم باختفاءه.
يفقد هارفي وظيفته في برينستون ويأخذ دفاتر ملاحظاته ومتعلقاته الشخصية وقواريره الزجاجية في حقائبه. ثم يغادر البلاد ويختفي عن الأنظار.
وبعد ذلك، في عام 1978، تلقى الصحافي الشاب ستيفن ليفي البالغ من العمر 27 عامًا، والذي تخرج من New Jersey Monthly ، طلبًا غريبًا من محرره: اعثر على دماغ أينشتاين!
بعد تحقيق طويل، تمكن الصحافي من الوصول إلى هارفي في ويتشيتا، كانساس. كانت الأجزاء الأخيرة من دماغ أينشتاين معه طوال الوقت، لا تزال في القوارير الزجاجية، موضوعة بعيدًا في صندوق في مكتبه.
ويروي الصحافي ليفي، في مقاله المنشور في أغسطس 1978، أن هارفي أطلعه على القطع التي احتفظ بها وتشمل “مخيخ أينشتاين، وقطعة من قشرة الدماغ والأوعية الأبهري”.
أطلقت مقالة ليفي البحث عن دماغ أينشتاين. وأشيع بعد ذلك أن دماغ أينشتاين يحتوي على عدد أكبر من الخلايا العصبية مقارنة من الآخرين، وأنه يقدم تكوينًا معينًا على مستوى شق سيلفيوس مما يزيد من حجم الفصوص الجدارية.
لسوء الحظ، كل هذه الملاحظات لم تكن مقنعة، وبقى موقع الذكاء مفهومًا مجردًا.
العمل الوحيد الذي كان بارزا في كل الأعمال التي تناولت دماغ أينشتاين هو عمل ماريان دايموند، عالمة التشريح العصبي بجامعة كاليفورنيا في بيركلي. والتي أكدت أن دماغ أينشتاين يحتوي على نسبة أكبر من الخلايا الدبقية مقارنة مع الخلايا العصبية من تلك الموجودة في 11 دماغ شاهد – والتي نتصور أنها أقل ذكاءً من دماغ الفيزيائي العبقري. نُشر هذا العمل عام 1985 في مجلة Neurology. .
تسليم الدماغ المسروق
في عام 1998، أعاد توماس هارفي الأجزاء الأخيرة من دماغ أينشتاين التي كان يمتلكها إلى إليوت كراوس، خليفته كطبيب علم الأمراض في جامعة برينستون. وفي عام 2005، بعد خمسين عامًا من وفاة أينشتاين، وافق الطبيب الشرعي، هارفي، على العودة إلى هذه القصة المذهلة من خلال سلسلة من المقابلات المسجلة من منزله في نيو جيرسي.
وتوفي هارفي في 5 أبريل 2007 عن عمر يناهز 94 عامًا. ومنذ ذلك الحين، استمرت الأبحاث حول الذكاء، ولكن بدون دماغ أينشتاين، الذي يستقر في سلام في متحف “موتر” (Mütter) في فيلادلفيا، حيث يمكن للجمهور معاينة القطع التي تم إجراؤها باستخدام الميكروتوم من طرف توماس هارفي.