لم يعد العالم، وعموم أوروبا خصوصا، ولا العواصم ذات الصلة بالعالم الإسلامي، من قبيل واشنطن وباريس وبروكسل، تغفل الطموحات الاستراتيجية الجديدة لتنظيم داعش، بل تأخذها بجدّية أكبر كلما اتسعت دوائر التنظيم والعمل الميداني عند جماعات عديدة تعلن بيعتها للتنظيم ـ الأم الذي أسسه أبو بكر البغدادي. من ليبيا ومصر، إلى الكونغو الديمقراطية وموزمبيق، مرورا بالنيجر ونيجيريا ومالي وتشاد والجزائر، يتنظم “داعش”، منذ اندحاره المعلن في سورية والعراق، تحت رايات سوداء واحدة بأسماء عديدة.
وعلى الرغم من تلقي هذه التنظيمات ضربات قوية، تمثلت في اغتيال قادتها المعروفين، كما النيجيري أبو مصعب البرناوي، في أكتوبر الماضي، وعدنان أبو وليد الصحراوي، زعيم جماعة “داعش في الصحراء الكبرى”، قبله بشهر، اللذين قتلتهما القوات الفرنسية، فإن العالم يتحد من أجل القضاء المبرم عليها. ولا سيما وقد أدركت أجهزة تلك العواصم، وقادتها العسكريون، أن تصفية زعماء تنظيمات داعش قد تضعفها، ولكنها لا تقضي عليها، ما يفتح مجالا لدورة جهادية جديدة، لا شيء يضمن أنها أقل قسوة ووحشية.
وكل مراكز البحث والدراسات، في القارة السمراء وفي أوروبا وداخل مجلس الأمن، تراقب الوضع بقلق متزايد، مع محاولة تنظيمات داعش إعادة تنظيم نفسها، والتحاق مقاتلين عديدين من ليبيا وسورية والعراق بمناطق غرب افريقيا. وتقول دراسة حديثة لمعهد الدراسات الأمنية في غرب أفريقيا إن “داعش” يعيد تقسيم المجال إلى أربعة أقاليم جهادية تحت سيطرتها، بالاستفادة من آلاف المقاتلين الذين جاؤوا من كل الآفاق. ويزكّي هذا المنحى تقرير صادر عن الأمم المتحدة في عام 2019، عن “سيطرة ترابية لداعش في مناطق أفريقية عديدة، تهم ليبيا، وتنظيمه الذي يتولى منطقة شاسعة من طرابلس إلى الجنوب، وتهم مصر في “أنصار بيت المقدس” الناشطين في صحراء سيناء، والدولة الإسلامية في بحيرة تشاد التي يصل عديدها إلى ثلاثة آلاف مسلح”.
الديبلوماسية الأمنية للمغرب وضعته في قلب الهندسة الدولية لمحاربة الجهاديين، بسلاح واحد موثوق به، هو المعلومة الاستخباراتية عن التنظيمات الجهادية
وليست مصادفةً أن مراكش تحتضن مؤتمر صباح اليوم الثلاثاء، 10 مايو الجاري، لما أصبح معروفا بـ”التحالف الدولي لمحاربة داعش” الذي تقوده واشنطن. ولعل الديبلوماسية الأمنية للمغرب وضعته في قلب الهندسة الدولية لمحاربة الجهاديين، بسلاح واحد موثوق به، هو المعلومة الاستخباراتية عن التنظيمات الجهادية وبنك المعلومات الذي وضع المغربَ في صميم المجهود الدولي لمحاربة الإرهاب. وقد حضر هذا المؤتمر أكثر 90 مشاركا ما بين دول ومنظمات عالمية نشطة في المجال. والمؤتمر، بحد ذاته، زاوية مهمة للجسر المغربي في الربط بين مخاوف أوروبا وخطط واشنطن ومهام دول الشمال الأفريقي وجنوب الصحراء. ولا يخفي المغاربة هذا المكسب، فانعقاد هذا الاجتماع يعكس “المكانة الجوهرية التي تحتلها المملكة في الهندسة العامة للأمن العالمي”، بتعبير السفير المغربي في روما. ولعل الريادة المغربية على الصعيد العالمي، باعتبار المغرب “صانعا للسلم والأمن، ولا سيما في أفريقيا، حيث يتسع نطاق التطرّف، الجريمة المنظمة والانفصالية”، تلخيص للدور الذي يلعبه المغرب، ولكن أيضا الدور الذي يريده التحالف الدولي منه في قضية جوهرية. فقد راكم المغرب خبرة ثلاثية، تتقاطع فيها اهتمامات جيرانه وحلفائه، وهي مجالات مكافحة الإرهاب، وتعزيز الأمن العسكري و… ومواجهة الانفصالية التي تحولت إلى حامل شبه إجباري للنزاعات الإرهابية.
في الجانب المتعلق بالتعاونين، الثنائي والثلاثي، كان لافتا أن المؤتمر سبقه تنسيق أمني أميركي مغربي في إحباط عمليات إرهابية، مع إقرار أوروبي، عن طريق إسبانيا والاتحاد الأوروبي، بأن التعاون مع المغرب مكّن من إسقاط عناصر عديدة في جماعات إرهابية. ولم تعد كفاءة الأجهزة المغربية، في “إحباط عديد من خطط الهجمات، حتى في أوروبا” موضوع شك أو استهانة.
ليس مصادفة أن الوزير الإسباني في الخارجية خوسيه ألباريس، الذي أعادت بلاده نظرها في العلاقة مع المغرب، بشكل غير مسبوق، قد شهد على الأهمية التي يكتسيها الاجتماع، وقال “نحن في حاجة إلى تعاون المغرب في محاربة الإرهاب الجهادي”، في تزامن مع نشر مضامين تقرير حديث، تقدّم به المغرب إلى جارته الشمالية في هذا الخصوص. وهو عنوان تعاون أوروبي أفريقي، صمد أمام امتحانات الديبلوماسية وأعاصيرها أحيانا كثيرة، منبثق، في عمقه، من وعي دقيق في الأوساط الأمنية والعسكرية الإسبانية، عبَّر عنه وزير الدفاع ورئيس المخابرات السابق خوسيه بونو، بالقول إن “قطع التعاون مع المغرب انتحار”.
كما أن المؤتمر ينعقد في سياق تراكم يثير القلق، عبّر عنه مجلس الأمن، في اجتماع عقده في غشت الماضي، على مستوى الوزراء، وخلص إلى “ضرورة بلورة جواب دولي على اتساع الرقعة الجهادية في أفريقيا بشكل يثير القلق”. ما يعني أن خريطة الجهاد الجديدة التي أقامت لها واشنطن حلفا دوليا موسّعا، لمواجهة امتدادها الانشطاري العنقودي الجهادي في شرق المتوسط وفي شمال أفريقيا، وفي القارّة الأفريقية، صارت نقطة في جدول الأعمال الدولية، رسميا عبر قراءات مجلس الأمن.
تجدر الإشارة إلى أن عقد ميلاد “داعش” من جديد لم يحدُث بطريقة صامتة ولا هادئة، بل جرى في فضاءين ترابيين وزمنين متباعدين بالقوة نفسها، سواء في محيط مدينة سرت الليبية أو في الهجوم على سجن الحسكة، أقصى شمال شرق سورية، في يناير 2022. وامتد بشكل غير متوقع، والدليل على طبيعة هذه العودة المترامية الأطراف أن أحدا لم يكن يتصور ربط اسم دولة جنوب أفريقيا بتنظيم الدولة الإسلامية، لولا بيان وزارة الخارجية الأميركية في مطلع مارس 2022، وكشف عن وجود ممولين رئيسيين كبار لتنظيم داعش في العالم وفرعه في .. موزمبيق! وتلاه قرار واشنطن بإصدار لائحة بأسماء أربعة من الممولين والمساعدين لـ”داعش”، ما يعد دليلا إضافيا على توسّع التنظيم المتطرّف المسلح، في امتداداته الأفريقية!
ترى الولايات المتحدة، في بيان لوزير خارجيتها أنتوني بلينكن، أن “من المهام الأساسية للتحالف تمويل المنظمات الإرهابية المرتبطة بتنظيم داعش وعمليات استقطاب المقاتلين من العالم”. والحال أن هذا التمويل كشف أن تداول المال يصل إلى أعلى قمة التنظيم، الذي يتولى توزيعه على الامتدادات في القارّة السمراء، بما يشي بأن النواة الصلبة ما زالت قادرةً على تأمين المال الضروري للوجود وللعمليات. وما يكشف عنه الخبر أساسا ورسميا هو السعي الجدّي والفعال لـ”داعش” من أجل توسيع دائرة نفوذه وعملياته ضد من يصنفهم أعداء في القارّة السمراء، عبر عمليات واسعة وذات صدى واسع، ولا سيما في الشريط الساحلي ـ جنوب الصحراء الذي يشكّل مناطق حرّة لاقتصاد التنظيم ولوجوده، باعتبار الضعف الرهيب الذي تعاني منه الدول هناك، لا سيما منها تشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وجزء مهم من نيجيريا الكبرى، حيث تتغلغل “بوكو حرام” الداعم الأكبر للخلافة الإسلامية!
المنطقة تخترقها تيارات انفصالية، سواء في الكونغو الديمقراطية أو في أوغندا، وهو ما يسلط الضوء على الانفصال، باعتباره مجالا حيويا لـ”داعش” تنتعش به وينتعش بها
ومن عناصر الجِدَّة أن جنوب أفريقيا ليست هي المفاجأة الأولى أو الأخيرة للتنظيم، بل كانت الكونغو مسرحا لعملية مسلحة شرق البلاد على الحدود مع أوغندا، كان أصحابها قد أعلنوا انتسابهم إلى “داعش”. وقد قرأ محللون، مختصون في قضايا المنطقة، ومنهم تييري فيركولون، من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، في ذلك الهجوم نوعا من الرد السياسي على تصريحات رئيس موزمبيق الذي أعلن دعمه لواشنطن في مواجهة “داعش”. وكان الرد غير المتوقع قد أعطى صورة عن قدرة التنظيم على الفعل الميداني ذي الصبغة السياسية. وفي الوقت نفسه، كان الهجوم الغطاء الفعلي لنزعات أبعد عن التطرّف الديني، بحيث أن المنطقة تخترقها تيارات انفصالية، سواء في الكونغو الديمقراطية أو في أوغندا، وهو ما يسلط الضوء على الانفصال، باعتباره مجالا حيويا لـ”داعش” تنتعش به وينتعش بها، في تبادل أدوار لم يعد يخفى على العواصم الكبرى. وذلك يمنح المغرب منصّة إضافية في المرافعات الجيوستراتيجية لخدمة قضيته الأولى، في مواجهة الانفصال الذي صار معينا في الدعم بمنطقة الساحل والصحراء الكبرى، مثاله في ذلك أبو وحيد الصحراوي.
سيحلّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في المغرب، بمناسبة مؤتمر التحالف الدولي، وكان قد كتب، في تدوينة له في 2021، أن “الهجمات أخيرا بينت أن داعش ما زال يمثل تهديدا، وما زال في مقدوره استقطاب مجموعات قتالية”، ودعا إلى “ضرورة إدماج مبادرات مدنية لمعالجة التطرّف وتأمين الاستقرار في المناطق المعنية”. وهو نفسه وضع شعارا لزياراته، أخيرا، إلى المنطقة، والرباط بالأساس، هو “التزام بالاستقرار والرفاه”، مقرّا، في الوقت ذاته، بأن “التعاون العسكري بين المغرب والولايات المتحدة يعد من أهم مجالات التعاون بين البلدين، وأن لهما نظرة مشتركة موحّدة”.
المغرب شريك، ولكنه أيضا “مانح للأمن” بفعل ريادته المنتدى الدولي لمحاربة الإرهاب، ثلاث دورات متتالية، وبفعل دوره الداعم في التحالف الدولي ضد “داعش”، ويملك ما يكفي من أوراق رابحة في تقديم سردية أمنية وجيوستراتيجية، لخدمة السلم وتقديم عرض مقنع لعواصم العالم عن قدرته على إيجاد بنود استقرار ـ جيوستراتيجي، لعل أحد عناصره قدرته على تحقيق الانفراج مع الدول التي توترت علاقته معها، وهو، في الوقت ذاته، مستهدف، كما حدث مع إسبانيا وألمانيا، وهو ما شكل رسالة “طمأنة” واطمئنان للعالم كله.