من دهاليز الفساد إلى أمل الإصلاح… فاس تنتظر الزروالي بقرارات شجاعة

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

لم يكن قرار وزارة الداخلية بتعيين خالد الزروالي والياً جديداً على جهة فاس – مكناس مجرد إجراء إداري روتيني، بل خطوة تحمل رسائل قوية في زمن دقيق تعيشه العاصمة العلمية للمملكة. فالمدينة التي كانت يوماً منارة للعلم والعمران والثقافة، تحولت في السنوات الأخيرة إلى فضاء يئن تحت وطأة الإهمال، ويغرق في دوامة من الفوضى الإدارية والاختلالات التنموية، حتى باتت صورتها باهتة في أعين ساكنتها وزوارها على السواء.

تعيين الزروالي، القادم من موقع حساس داخل وزارة الداخلية حيث راكم تجربة طويلة في ملفات الهجرة ومراقبة الحدود، لم يكن اعتباطياً. فالرجل معروف بصرامته وبقدرته على تدبير الملفات المعقدة، واليوم يجد نفسه أمام تحدٍّ جديد من نوع آخر: إعادة ترتيب بيت جهة فاس – مكناس، وتطهير إدارتها الترابية من مظاهر التسيب والعبث، واسترجاع ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.

فاس اليوم تبدو مدينة بلا نبض إداري، شوارعها متداعية، مرافقها الجماعية منهكة، وملفات النظافة فيها تحولت إلى حقول مفتوحة للصفقات الغامضة التي تلتهم الملايين دون أثر ميداني ملموس. في كل حي من أحيائها، تتجسد مشاهد العبث الإداري: نفايات متراكمة، إنارة منطفئة، حدائق مهجورة، وباعة جائلون يحتلون الأرصفة أمام أعين السلطات. المواطن الفاسي بات يشعر باليأس من الإدارة التي ترد بالتسويف، في حين فقد مجلس المدينة السيطرة على تدبير المال العام، وترك الحبل على الغارب لمجموعة صغيرة من المستفيدين الذين حوّلوا الشأن المحلي إلى غنيمة.

ما ينتظر الوالي الزروالي لا يقتصر على إصلاح أوراش متهالكة أو ترميم البنية التحتية، بل يتجاوز ذلك إلى مواجهة شبكة معقدة من المصالح والمنتفعين الذين اعتادوا على الالتفاف حول كل مسؤول جديد. هم ذات الوجوه التي زيّنت الكلام للوالي السابق معاذ الجامعي ثم تركته وحيداً في مواجهة خيبات المدينة، بعدما باعوه الأوهام وزينوا الفشل بشعارات الإصلاح. إنهم الدولة العميقة للفساد المحلي، يحركون الخيوط من وراء الستار ويتقنون لعبة التمويه والمجاملة.

صفقات النظافة والنقل الحضري تشكل الوجه الأكثر وضوحاً لهذا الفساد الممنهج. عقود غامضة ودفاتر تحملات مفصلة على المقاس، مقابل خدمات رديئة لا تليق بمدينة بحجم فاس. أما المواطن، فيدفع الضريبة بصمت ولا يرى من التنمية سوى الكلام.

على الصعيد الجهوي، يعاني ميزان التنمية من خلل فادح. فبينما تنعم بعض الأقاليم بمشاريع متكررة وميزانيات ضخمة، تظل أقاليم أخرى في الهامش، دون مبرر سوى المحسوبية والزبونية. هذا الخلل خلق شرخاً اجتماعياً حقيقياً داخل الجهة وأضعف جاذبيتها الاستثمارية. فكيف لجهة غنية بمؤهلاتها الفلاحية والصناعية والسياحية أن تبقى عاجزة عن خلق فرص شغل حقيقية؟

لكن معركة الزروالي لا تقف عند الإصلاح الإداري فقط، بل تمتد إلى إعادة إحياء روح المدينة وترميم ذاكرتها. ففاس التي تحمل عبق التاريخ والهوية المغربية الأصيلة، تُركت لسنوات فريسة للإهمال. مبانيها التاريخية تتهاوى، والمدينة العتيقة تغرق في الفوضى، رغم المشاريع التي وُعدت بها سابقاً. واليوم، فاس في حاجة إلى رؤية جديدة تجعل من تراثها رافعة اقتصادية وثقافية حقيقية، لا مجرد شعار سياحي للاستهلاك الإعلامي.

الإصلاح المنتظر لن يتحقق إلا بعودة الصرامة وربط المسؤولية بالمحاسبة. تجربة والي فاس الأسبق سعيد أزنيبر تبقى شاهداً على أن الجرأة والمواجهة هما الطريق الوحيد لاستعادة هيبة الدولة. على الزروالي أن يكون حاضراً في الميدان، لا في المكاتب، وأن يضع حداً للمحسوبية داخل الإدارات، خصوصاً في الملحقات التي تحولت إلى بؤر للوساطة والتواطؤ في ملفات البناء العشوائي واحتلال الملك العمومي.

غير أن التحدي الأكبر يكمن في تداخل المصالح بين المنتخبين ورجال المال، الذين صنعوا لأنفسهم “لوبيات” تتحكم في الصفقات والعقارات والمشاريع، وتستعمل نفوذها لحماية مصالحها. هذه الشبكة هي التي خنقت التنمية الحقيقية، وحولت السياسة إلى وسيلة للاغتناء. فهل يمتلك الوالي الجديد الجرأة الكاملة لكسر هذه الحلقة؟

فاس لم تعد تحتمل المزيد من التسيير الارتجالي ولا الخطابات المنمقة. هي اليوم في حاجة إلى ثورة إدارية هادئة، تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وتعيد الاعتبار لقيمة العمل والشفافية. والمطلوب من الزروالي أن يضع خريطة طريق واضحة، تنطلق من إعادة هيكلة الجماعات الترابية، وتسريع المشاريع الكبرى المتوقفة، وتشجيع الاستثمار المنتج بدل الريعي، لأن التنمية لا يمكن أن تتحقق في بيئة غارقة في الزبونية والفساد.

الشارع الفاسي يترقب، ويتحدث بوضوح: لا نريد شعارات، بل قرارات جريئة. يريدون مسؤولاً ينزل إلى الشارع، يرى بأم عينه الاختلالات، يسمع الناس ويواجه الحقيقة. ففاس اليوم على مفترق طرق حاسم، إما أن تنبعث من رماد الفوضى وتستعيد مكانتها التاريخية، أو تظل أسيرة للفساد والمصالح الضيقة.

التاريخ لن يرحم، وسيسجل أن العاصمة العلمية كانت يوماً حاضرة مجد وعلم وحضارة. فهل سينجح خالد الزروالي في أن يكتب صفحة جديدة عنوانها الصرامة والإنقاذ؟ أم يمر مروراً عابراً على مدينة ما زالت تنتظر من يوقظها من سباتها الطويل؟

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.