*عبد الله العلوي
بدأت حملة الانتخابات الهندية في 11 أبريل و ستنتهي آخر شهر ماي، وهي الانتخابات التي يقودها الحزبان الكبيران في البلاد: حزب المؤتمر الذي يرجع تأسيسه إلى سنة 1886، وحزب “الشعب” جاناتا الذي تأسس في 1981، وهو حزب يحمل أفكارا هندوسية متطرفة تجاه الأقليات، خاصة الأقلية الإسلامية الضخمة – حوالي 300 مليون نسمة- بالإضافة إلى اليسار الذي يقوده الحزبان الشيوعيان، الحزب الشيوعي الهندي الذي أُنشئ في 1920، والحزب الماركسي المستقل الذي يحكم ولاية البنغال منذ 1977، والمنشق عن الحزب الشيوعي في 1966. وأحزاب إقليمية ووطنية عديدة بعضها متحالف مع الحزبين الرئيسيين، المؤتمر وجاناتا.
يبلغ عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية 860 مليون شخص، حيث يحق لكل من بلغ 18 عاما أن يكون ناخبا. وتجري الانتخابات على مراحل في الولايات الهندية الـ 28، والمناطق الاتحادية الـ 7 التي تديرها الحكومة المركزية، حيث لكل ولاية حاكمها المعين من رئيس الجمهورية، ولها حكومة منتخبة محليا يرأسها كبير الوزراء، والتي تدير الشؤون المحلية المالية، والاجتماعية، والتعليمية، والخدماتية، بينما تنتخب الحكومة المركزية وطنيا، وتتركز في يدها سلطة السياسة العامة والسياسة الخارجية. ويعين الحزب الفائز بأغلب المقاعد أو يتحالف مع أحزاب أخرى لتشكيل الحكومة الوطنية، بينما ينتخب رئيس الجمهورية من طرف البرلمان المؤلف من مجلسين: مجلس الولايات و مجلس البرلمان. ورئيس الجمهورية لا يبادر إلى ممارسة أي سلطة فذلك من مهام الحكومة المركزية خلال خمس سنوات مدة انتخابها.
استقلت الهند <= أرض الإله إندرا> عن بريطانيا في 15-08-1947، ووضعت دستورها العلماني في 26 يناير 1950 تحت إشراف أول رئيس وزراء هندي هو “جواهر لال نهرو” 1947-1964، الذي يمكن اعتباره المؤثر الأول في التاريخ الهندي الحديث من اسم البلد حتى وضع دستور لائكي رغم الأغلبية الهندوسية، وقد ظلت عائلة جواهر لال نهرو وحزب المؤتمر يحكمان الهند لعقود، فابنته أنديرا غاندي 1917-1984 تولت منصب رئاسة الوزراء 1966-1984، وكذلك ابنها راجيف غاندي. كما أن الحزب القائد حزب المؤتمر ظل يحكم الهند لسنوات عديدة حتى ظهور حزب جاناتا، الذي دغدغ الشعور الهندوسي للأغلبية، بمهاجمة الأقليات خاصة الإسلامية، حيث أدى الصراع إلى تدمير مسجد تاريخي في مدينة إيوديا في 1991. وجرت حرب طائفية في ولاية كوجرات في 2002، وكان كبير وزراء ولاية كوجرات آنئذ هو رئيس وزراء الهند الحالي، وزعيم حزب جاناتا نارندرا مودي، وقد قتل الآلاف من المسلمين في كوجرات في هذه الحرب الطائفية، واتهم مودي من طرف المنظمات الدولية، والحكومات الغربية بقيادة حرب طائفية ضد المسلمين. وقد ارتبطت حكومة جاناتا مودي بعلاقة عسكرية واتفاقيات سرية مع الكيان الصهيوني، مستغلا الظروف السياسية الرخوة والمواقف السياسية السلبية لدول الخليج العربي التي قد تتجاوز مواقف الأعداء.
ويقود حزب المؤتمر الهندي في هذه الانتخابات راهول غاندي “49 عاما” ، نجل راجيف غاندي، بحنكة وتراكم سياسي وشعبي، تساعده شقيقته بريانكا غاندي الشبيهة بالراحلة أنديرا غاندي، ووالدته سونيا غاندي – ذات الأصل الإيطالي-، ويستغل راهول الأخطاء السياسية القاتلة، التي سقط فيها حزب جاناتا بقيادة مودي، وعلى رأسها إلغاء الأوراق المالية المتداولة واستبدالها بأخرى جديدة لمحاربة التهرب من الضرائب. ليتضح بعد ذلك أن الأوراق البديلة تعادل 97% من الأوراق الملغاة إلا نسبة ضئيلة، مما أدى إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية وتزاحم شديد – نظرا للفترة القصيرة للتبديل- على الأبناك، تزامن ذلك مع صعوبة المواسم الفلاحية، مما أدى إلى انتحار آلاف من الفلاحين، علما أن ثلث المنتحرين الذكور في العالم هنود، و 40% من النساء المنتحرات في العالم هنديات.
يضاف إلى ذلك أخطاء أخرى كإدارة الصراع في كشمير -الولاية الإسلامية الوحيدة في الهند- بخلفية عقائدية، وكالصفقات العسكرية مع فرنسا، بخصوص شراء طائرات “رافال” والتي انتقدت بشدة في الهند، مع إشاعات قوية عما يشوبها من فساد، وإفلاس عدد من الشركات الكبرى في الهند، وهروب مالكيها إلى الخارج، والانهيار المالي لشركة “جت إرويز” أضخم شركات الطيران الخاصة في الهند وفشل سياسة مرحاض لكل منزل التي قاد بها مودي حملة الانتخابات في 2004، حيث أن نصف منازل الهنود لا تتوفر على مرحاض خاص، ناهيك عن الحرب الأهلية الصغيرة في شرق الهند، التي تقودها الأحزاب الماوية منذ الأربعينيات والتي تتصاعد بوتيرة وئيدة، كل هذه السقطات والظروف العسيرة تؤهل حزب المؤتمر الهندي للفوز بهذه الانتخابات بعد الهزيمة القاسية التي مُني بها في 2004، واتهم حينها على نطاق واسع بالترهل والفساد. واليوم يأتي اختيار راهول غاندي لقيادة الحزب لمنحه دماء جديدة تتدفق من النسب إلى العائلة القائدة، التي تزعمت الحكومات خلال 42 سنة من مجموع 72 سنة جسدت تاريخ استقلال الهند، والتضحيات الجسام لهذه العائلة على رأس حزب المؤتمر الهندي الذي قاد الكفاح في المرحلة الاستعمارية ضد الانجليز.
إلا أن هزيمة جاناتا ليست بالأمر اليسير، نظرا لكون غالبية الهندوس، خاصة الطبقات الهندوسية ترى فيه الحزب الذي يهدف إلى إعادة الطبقية النقية الهندوسية* إلى الهند، بينما زعيم جاناتا مودي، هذا المترهب الذي يتمتع بشعبية لدى الهندوس، والذي كان مقيما وبائعا للشاي في محطة القطار في عاصمة كوجرات القديمة أحمد أباد، يَعتبر وزير الداخلية في حكومة جواهر لال نهرو 1947-1966 “باتل” أباه الروحي، وهو الذي سعى إلى نحت تمثال لهذا الوزير الهندوسي المتطرف كلف مبلغ 420 مليون دولار، مما أثار احتجاجات واسعة. وكان الوزير “باتل” قد عارض المهاتما غاندي الذي كان قد مارس الإضراب عن الطعام في 1947 احتجاجا على الصراع بين الهندوس والمسلمين والمطالبة بأداء تعويضات للمسلمين، الذين خسروا متاجرهم ودورهم. إلا أن “باتل” رفض ذلك، فقال غاندي قولته الشهيرة: (حتى أنت يا “باتل”!).
وقد استغل أنصار جاناتا الصراع في حزب المؤتمر، الذي انشق إلى حزبين في 1979 ليؤسس هذا الحزب؛ وبعد أن كان عدد نوابه في بداية الثمانينات 3 أعضاء، تحولوا في نهاية العقد إلى 100 نائب، ثم إلى غالبية أعضاء البرلمان الذي يبلغ عدد أعضائه 545 ضمنهم 10 يعينهم رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى مجلس الولايات “لوك سابها”، المؤلف من 250 عضوا. وتساند حزب جاناتا المنظمات الهندوسية المتطرفة خاصة المجلس العالمي الهندوسي، و”شيڤ سينا” وغيرهم من الذين يحاربون الأقليات، خاصة الإسلامية والمسيحية و السيخ، ولطالما حاولوا ثني عدد من المسلمين والمسيحيين عن دينهم، فلم ينجحوا مما أدى إلى عمليات اغتيال ضد بعض قادة الهندوس واضطرابات أعقبت الاغتيال في كل أنحاء الهند.
ورغم أن النخبة الهندية التي تشكل حوالي 400 مليون نسمة من حوالي مليار ومائة مليون نسمة، تعتبر صمام الأمان حتى لا تتطرف الأحزاب الهندوسية نحو اليمين، إلا أن هذه النخبة تعتريها في منعرجات عديدة الرغبة في معاقبة الأحزاب العلمانية وشبه العلمانية، وعلى رأسها حزب المؤتمر. وتصوت عقابيا لصالح الأحزاب الهندوسية ، هذه الأحزاب التي تحاول بإصرار تغيير معالم الدولة التي أرساها دستور 26 يناير 1950، الذي شيد دعائمه جواهر لال نهرو على أساس الفيدرالية، والعلمانية، والاقتصاد الحر، مع تحركات اشتراكية أو اجتماعية على الأصح أكدت عليها أنديرا غاندي في السبعينات لحماية الفقراء الذين يشكلون غالبية المجتمع الهندي. وبفضل هذه السياسة تم القضاء على المجاعة في الهند، وأصبحت البلاد تصدر الأرز واللحوم بعد تغيير العادات الغذائية والتغلب على بعض التفسيرات الهندوسية.
وبعد أن فجرت الهند قنبلتها النووية في 1974 و 1998 وازدهرت الصناعة وبلغ النمو 8%، دخلت الهند في منافسة قوية مع جارتها الصين، التي شكلت دائما هاجس للقيادة الهندية. فقد استولت الصين في حرب 1962 ضد الهند على 35000 ميل من الأراضي، ادعت بكين أنها انتزعت من الصين أثناء الهيمنة البريطانية على المنطقة. ولازالت لها مطالب في ولاية “آرونال براديش ” الهندية، مما جعل الهند تدخل في تحالفات مع الاتحاد السوڤياتي ومعاهدة صداقة لمواجهة النفوذ الصيني، الذي امتد إلى باكستان الخصم التقليدي للهند، التي كانت جزءا من الهند التاريخية حتى 1947، عندما انشق جزء من المسلمين وأنشأوا باكستان الغربية ثم الشرقية <=بنغلاديش حاليا>، التي انفصلت عن باكستان بدعم عسكري هندي في 1971.
وقد سبق قبل حرب 1971 أن دخل البلدان في حربين سنتي 1948 و 1965، وتحولت المنطقة إلى تحالفات بين الصين وباكستان في مواجهة الهند، وتعاون عسكري صاروخي و نووي بين باكستان وكوريا الشمالية رغم الصداقة الأمريكية الباكستانية، وتحالف بين باكستان ودول الخليج العربي وواشنطن. وبعد صعود حزب الشعب الأفغاني الماركسي إلى السلطة في أفغانستان في 1978، ونشوب الحرب الأهلية هناك والتي استمرت حتى سنة 1988 وانتهت بانهيار الاتحاد السوڤياتي في 1991، وتدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك في 2001، لازالت تداعيات حروب المنطقة تهيمن على العالم، وامتدت إلى تنافس اقتصادي شرس بين الهند والصين في إفريقيا والخليج العربي والنيبال وبهوتان وسريلانكا. في هذه الأجواء تجري الانتخابات الهندية، التي تشارك فيها مئات الأحزاب والتيارات السياسية والطائفية المساندة للحزبين المهيمنين: المؤتمر وجاناتا.
لقد تحولت الهند خلال الخمسين سنة الماضية إلى قوة اقتصادية وعسكرية بمساحة 3.287,267 كلم 2، وبعدد سكان يبلغ حوالي مليار ومائة مليون نسمة، وسوق قوية، ونمو يصل إلى 6%، وتغلبت الهند نسبيا على الصراع الطائفي، الذي يريد حزب جاناتا إحياءه من جديد، وهو الصراع الذي عرقل دائما المجتمع الهندي وامتدت آثاره إلى المنطقة برمتها.
*باحث
*المقصود بالطبقية الهندوسية: الطبقات الأربع التي تتشكل من البراهما والشسترا و الڤيزيا والشاندالا، ثم المنبوذين وهم خارج النظام الطبقي الهندوسي، رغم هندوسيتهم . وعددهم في الهند حوالي 260 مليون نسمة، والقانون الهندي لايعترف بهذه التصنيفات لكن المجتمع الهندوسي خاصة في الأرياف لازال متأثرا بها.