شبكات المصالح تبتلع المال العام.. فهل تجرؤ الحكومة على اقتلاع جذور الفساد؟
منذ سنوات، تتحول الصفقات العمومية إلى بوابة عريضة يتسلل منها الفساد إلى جسد الدولة، فتنتشر مظاهره في مؤسساتها وتضعف ثقة المواطنين في نزاهة القرار العمومي. ومع كل تعديل حكومي أو خطاب عن “الشفافية ومحاربة الريع”، يتجدد السؤال الذي يتهرب الجميع من جوابه:
هل تملك الحكومة الجرأة فعلاً على قطع شريان الفساد الممتد بين السياسة والمال العام؟
يبدو أن الجواب، حتى الآن، لا يزال أبعد ما يكون عن الإيجاب. فالمعطيات المتوفرة تؤكد أن الاحتقان الاجتماعي وتصاعد الغضب الشعبي ليسا سوى نتيجة طبيعية لاستمرار منطق الزبونية والمحسوبية، الذي يخنق قطاعات حيوية كالتعليم والصحة، ويكرّس انعدام العدالة في توزيع الفرص والمناصب والصفقات.
مصادر متطابقة تكشف أن عدداً من البرلمانيين والمقربين من وزراء في أحزاب الأغلبية أصبحوا يتحكمون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في مسار الصفقات العمومية. فشركاتهم، أو تلك المسجلة باسم أفراد من عائلاتهم أو شركائهم، تفوز بعقود ضخمة تغطي كل المجالات: من الحراسة إلى النظافة، ومن الاستقبال إلى خدمات المناولة، مروراً بالإمدادات اللوجستية داخل المؤسسات العمومية.
الظاهر أن هذه الصفقات تمر عبر مساطر قانونية شكلية، لكن الحقيقة ـ كما تشير تقارير عدة ـ أن النتائج تُحسم مسبقاً قبل فتح الأظرفة، وأن لوائح المقاولات المشاركة يتم التحكم فيها مسبقاً من داخل الوزارات والمؤسسات. وهكذا تُقصى المقاولات المواطِنة التي تحترم القوانين فقط لأنها لا تنتمي إلى “نادي النفوذ السياسي والمالي”.
ولعلّ ما وقع في صفقة النظافة بالمركز الاستشفائي الإقليمي بمكناس يجسد هذا الواقع المأزوم. فقد أُسندت الصفقة، التي بلغت قيمتها 134 مليون درهم، إلى تعاونية لا تملك المؤهلات التقنية ولا القدرة المالية المطلوبة. ومع تصاعد الضغط الشعبي والإعلامي، اضطرت وزارة الصحة إلى إلغاء الصفقة وفتح تحقيق داخلي حول ظروف تمريرها. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل يكفي الإلغاء لإصلاح الخلل؟ أم أن شبكة المصالح المتجذرة تحتاج إلى تفكيك شامل لا مجرد ترميم جزئي؟
إن ما يحدث في كواليس الصفقات العمومية لم يعد مجرد خلل إداري، بل أصبح قضية سياسية واجتماعية بامتياز، تمس جوهر العلاقة بين المواطن والدولة. فحين يرى المواطن أن نفس الوجوه البرلمانية والمقربين من الوزراء تتقاسم الكعكة في كل صفقة، بينما المقاولات الصغرى والمستقلة تُقصى بشكل ممنهج، فإن الغضب الشعبي يصبح نتيجة منطقية وليست مفاجأة.
التحكم في الصفقات، اليوم، هو الوجه الأخطر للفساد داخل المنظومة الحكومية. إنه الخيط الذي تتشابك حوله كل مظاهر الريع والتلاعب بالمال العام، والتضارب بين السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية. فإذا لم تفتح الحكومة هذا الملف بشجاعة ومسؤولية، فإن البلاد مهددة بما هو أخطر من الأزمات الاقتصادية الحالية: أزمة ثقة عميقة في الدولة ومؤسساتها.
القطع مع الفساد لا يكون بالشعارات ولا بالخطب الرنانة، بل بقرارات حقيقية تُحاسب المتورطين، كيفما كانت مواقعهم، وتُفكك زواج المصلحة بين السياسة والمال. المواطنون لم يعودوا بحاجة إلى وعود متكررة عن “الشفافية والنزاهة”، بل ينتظرون أفعالاً ملموسة تُعيد للقانون هيبته وللمؤسسات مصداقيتها.
لقد حان الوقت لتعلن الحكومة، بوضوح لا لبس فيه، أن عهد السياسيين الذين يقتاتون من الصفقات العمومية قد انتهى، وأن المال العام لن يظل غنيمة في يد المقربين، بل أمانة يجب أن تُصرف لخدمة المواطن لا لخدمة النفوذ. فإما أن تختار الحكومة طريق الإصلاح الجريء، أو تترك الساحة لغضب الشارع الذي بدأ صوته يعلو من جديد.