قانون بنسعيد تحت مجهر الدستور… من تنظيم الصحافة إلى تطويقها بمنطق المال
يتصاعد الجدل القانوني والدستوري حول مشروع ما بات يُعرف بـ“قانون بنسعيد”، في ظل انتقادات متزايدة ترى فيه نصًا لا يعاني فقط من اختلالات تقنية، بل من انحراف عميق يمس فلسفته وبنيته وأهدافه.
وفي هذا السياق، قدّم المحامي بهيئة الرباط والمهتم بالشأن الإعلامي، محمد إشماعو، قراءة حادة للمشروع، اعتبر فيها أن الإشكال لا يهم فصولًا معزولة، بل يطال مشروع القانون ككل، من حيث منطلقاته وتوجهاته والغاية المتوخاة منه.
ويرى “اشماعو” أن المشروع ينقل مركز الثقل من الصحافة المهنية بوصفها خدمة عمومية ذات أدوار ديمقراطية، إلى منطق تجاري صرف، مؤكدًا أن النص “يرتكز على رأس المال، وهو ما لا يخدم بالضرورة الصحافة الجادة والمسؤولة، بل يخدم توجهًا معينًا يحقق أرقام معاملات مهمة، خاصة عبر منصات رقمية مثل اليوتيوب، من خلال نشر ما يمكن تسميته بالتفاهة”.
واعتبر المتحدث أن هذا التحول يشكل مساسًا مباشرًا باستقلالية الصحافة، موضحًا أن تكريس منطق المال والربح يفرض منطقًا ريعيًا يتناقض مع الأسس الدستورية المنظمة للمجال.
وشدد على أن هذا التوجه يخالف بشكل صريح مقتضيات الفصل 28 من الدستور، الذي ينص على أن السلطات العمومية تشجع تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة وديمقراطية، لا خاضعة للهيمنة المالية أو الحسابات التجارية.
وفي تحليله للمنطق التمثيلي الذي اعتمده المشروع، انتقد “إشماعو” اعتماد رقم المعاملات معيارًا للتمثيلية داخل هيئات التنظيم، معتبرًا أن هذا الاختيار يتناقض مع المرجعيات الدولية والحقوقية، ويتعارض مع مبادئ باريس التي تؤطر الهيئات ذات الصيغة التدبيرية الذاتية، والتي تشترط الاستقلالية والحياد، لا التبعية المالية.
ونبّه “اشماعو” إلى أن ما يقع اليوم هو تخلي واضح عن المبادئ التي تكرس الاستقلالية، مقابل التركيز على معايير مالية تضرب جوهر التنظيم الذاتي، محذرًا من أن تمثيل الناشرين وفق رؤوس أموالهم وعدد المستخدمين “يفرغ التنظيم الذاتي من مضمونه، ويحوّله إلى آلية تحكم لا إطارًا ديمقراطيًا للتنظيم”.
وذهب إشماعو أبعد من ذلك، معتبرًا أن الأخطر في هذا القانون هو طريقة تدبيره وسياقه، قائلًا إن “هذا النص دُبر بليل، وغرضه واضح، وهو ممارسة منطق الكماشة على الإعلام وحرية التعبير، لإخضاعها وضرب استقلاليتها”، في إشارة إلى ما يراه تضييقًا ممنهجًا تحت غطاء الإصلاح القانوني.
وسجل المتحدث أن رفض المشروع لم يكن معزولًا أو محدودًا، مبرزًا أن جميع وزراء الإعلام السابقين عبّروا عن رفضهم له، إلى جانب أغلبية تمثيلية الصحفيين وأصحاب المقاولات الصحفية، باستثناء الجهة المستفيدة من الصيغة الحالية، مشيرًا أيضًا إلى انسحاب فرق المعارضة من جلسة التصويت بمجلس النواب، كدليل على عمق الخلاف حول النص.
ومن زاوية دستورية خالصة، شدد إشماعو على أن التنظيم الذاتي لا يمكن أن يستقيم دون حرية الاختيار، موضحًا: “إذا كنا نتحدث عن تنظيم ذاتي للصحفيين، وأغلبية المهنيين ترفض هذا المشروع، فعن أي تنظيم ذاتي نتحدث؟ تنظيم من؟”. وأضاف أن “الاختيار لا يمكن أن يعني الانتداب، بل يعني دائمًا الانتخاب”، معتبرًا أن الصيغة الحالية تضرب الرأي الفردي، وتوجّه الاختيار قسرًا نحو جهة بعينها.
في ظل هذه الانتقادات المتراكمة، يبدو أن مشروع “قانون بنسعيد” لم يعد مجرد نص تشريعي عادي، بل أصبح قضية دستورية بامتياز، قد تجد طريقها إلى المحكمة الدستورية، في اختبار حاسم لحدود التشريع، ولمدى احترامه لروح الدستور وضماناته في مجال حرية الصحافة والتعبير.