في مراكش.. المهرجان يرقص والفنان يتألم!
في المدينة الحمراء، حيث الأصوات تتعالى بأهازيج التراث وتحت الأضواء التي توهم بالعظمة، يُقام المهرجان الوطني للفنون الشعبية في دورته الرابعة والخمسين. لكن خلف الكواليس، حيث لا تصل عدسات التلفاز ولا تصافح الأعين ابتسامات الضيوف الرسميين، هناك فنان يئن بصمت، يرقص على إيقاع الإهمال لا الأنغام.
أجرة 250 درهم؟ نعم، ولكن!
تبدأ الحكاية من الرقم الذي لا يليق لا بزمننا ولا بكرامة من يحمل التراث فوق كتفيه: 250 درهم أجرة الفنان. أجل، 250 درهم لكل ما يُقدّمه من تعب، وعرق، وذاكرة جماعية. وهو رقم لا يكفي لشراء قنينة غاز، التي طُلب منه -على كل حال- أن يخفيها عن أنظار لجنة المراقبة، وكأنها سلاح محظور، لا أداة للطبخ أو الاحترام.
الثلاجة؟ ترف مفقود!
في أماكن الإقامة، لا مكيفات، لا ثلاجات، فقط غرف داخل مؤسسة تعليمية -ثانوية- تحولت مؤقتًا إلى “مخيم إبداعي”. وكأن الفنان مجرد تلميذ عابر أو نزيل تحت المراقبة. السكن بلا تجهيزات أساسية، الطعام بلا إمكانية حفظ أو إعداد، وحتى المسموح من الطبخ ممنوع، إكرامًا لمرور لجنة لا ترى في الفنان إلا متهمًا محتملاً!
7 أيام من الصمود
سبعة أيام كلفت الفنان ما يقارب 700 درهم فقط للعيش، بمعدل 100 درهم في اليوم. وبهذا يتفوق على محترفي الاقتصاد والتدبير الذاتي، دون أن ينال جائزة نوبل في الصبر أو وسام تقدير من وزارة الثقافة. هل يُعقل أن يُطلب من حارس الهوية الثقافية أن يتحول إلى متسول داخل مهرجان يُفترض أنه وُجد من أجله؟
التراث في كفّ عفريت
المفارقة القاتلة أن هذا المهرجان، الذي تأسس لحماية التراث اللامادي المغربي، يبدو اليوم وكأنه يهدد هذا التراث نفسه من خلال تهميش حامليه، وإذلالهم بممارسات تنتمي لعصور ما قبل الفن، وليس فقط ما قبل الحداثة.
إن الاستمرار في تجاهل معاناة الفنان الشعبي، وعدم توفير الحد الأدنى من الكرامة في مثل هذه التظاهرات الوطنية، لا يُهدد فقط صورة المهرجان، بل يُهدد استمرار هذا الفن نفسه. فكيف يمكن لفنان جائع أن يغني؟ وكيف يرقص من لا مأوى له إلا قاعة دراسة قديمة؟
صرخة في وجه الصمت
هذا المهرجان، بكل زخمه الإعلامي، يُخفي بين تفاصيله صرخة مكتومة: “أنقذوا الفنان، كي يظل التراث حيًا”. فالوطن لا يُبنى فقط بالبُنيات التحتية، بل بأرواح تُبدع وتغني وتورّث. وإن ضاعت هذه الأرواح، فسنجد أنفسنا ذات يوم نبحث عن “الفن الشعبي” في المتاحف بدل الحقول والساحات.