*عبد الله العلوي
لعبت الصورة دورا مؤثرا في التاريخ المغربي الحديث، خصوصا أثناء الكفاح ضد الاستعمار وبعد. لم تكن الصورة قبل ذلك تلعب دورا مهما، أكثر من الإمتاع واقتصر ذلك على السينما بعد ظهورها، وفور الحصول على الاستقلال، تبين أن قاعات السينما قد يكون لها دورٌ هامٌ في التأثير على جماهير القاعات المظلمة، فشرع في إنجاز ما عرف بالأنباء المصورة التي كانت تسبق الشريط السينمائي. كان هذا الشريط الوثائقي يوفر لمتفرج السينما نظرة مختصرة ومركزة على النشاط الرسمي في البلاد، خاصة الأنشطة الملكية والحكومية، وحتى بعد انتشار التلفزيون على المستوى الوطني (بعد 1960)وفي الدار البيضاء في 1958، فإن الشريط الوثائقي للأنباء المصورة ظل جزءا من الإطلالة الهامة على جماهير السينما التي كانت تعرف إقبالا جماهيريا بالغ الأهمية.
ومع وجود حوالي 300 قاعة سينمائية منتشرة على الصعيد الوطني، فإن البرنامج الوثائقي للأنباء المصورة كان يعرف إقبالا وشغفا، حتى أن جماهير القاعات السينمائية كانت تصفق لهذا الشريط، الذي ظل يعرض حتى 1976 أو 1977. وكان بالإضافة إلى المذياع والجرائد أحد الوسائل التي يطلع من خلالها الجمهور على النشاط الرسمي للبلاد، قبل ظهور السينما والبرامج الوثائقية والتلفزيون، لم يكن مسموحا بالصور سواء كانت رسما أو فوتوغرافا لمبررات عدة، بعضها فقهي يرجع إلى الخوف من وثنية قد ترتبط بهذه الرسم أو ذاك، ومثل ذلك النحت الذي كان مرفوضا باعتباره عملا وثنيا.
وعندما بدأت تظهر مع مطلع القرن العشرين بعض الصور التي أخذت لبعض المغاربة، كانت تتوفر غالبا لدى الأجانب، وأحيانا لدى بعض العائلات الثرية أو المرتبطة بالأجانب بطريقة ما كالموظفين، والجنود. وقد بدأت مهنة التصوير تظهر بشكل خجول في بعض المدن المغربية خاصة الدار البيضاء والرباط، لكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1939 / 1944، وصدور قانون الحالة المدنية سنة 1951، الذي يفرض على صاحب الدفتر أو الكناش العائلي الإدلاء بعدة صور شمسية. بدأت الصور تنتشر وبدأ الناس يرون أنفسهم في هذه الصور، إلا أن المرأة تأخر ظهورها في الصور لأسباب بديهية، باستثناء صور مختطفة من أحياء معينة، أو لنساء بالحجاب لأسباب فلكلورية، أو لبعض الرسامين الأجانب الذين رسموا الوجوه، والنساء في أوضاع مخلة؛
الصورة السياسية: تزامنت المرحلة الهامة للصورة في التاريخ المغربي، مع نفي السلطان محمد الخامس 1927/1961 إلى مدغشقر وعزله من العرش، الشيء الذي رفضه الشعب المغربي وقواه الوطنية. جعلت هذه المرحلة 1953/1956 الصورة بمثابة منشور وطني أو ثوري، إلى جانب الجرائد والمناشير، فقد أبدع رسامو الحركة الوطنية رسوما للسلطان محمد الخامس، مع حكايات مرتبطة بها وهي على قلَتها.
كان تأثيرها كبيرا على الجماهير التي لم تك على اطلاع بمجريات الأمور، وحتى التي كانت على اطلاع، ارتبطت من خلال هذه الصور بالقضية الوطنية، وامتلأت بها غرف البيوت، وأزالت الطابع السلبي لصورة السلطان مولاي عبد العزيز وهو طفل راكبا دراجة. ويذكر أن إحدى أهم الصور حملت رسما لشخص مُكبل يتوسل إلى السلطان المغفور له محمد الخامس فك قيوده، واعتقد أن هذه الصورة كانت أهم صورة / رسم، أبدعت في مرحلة المقاومة والحركة الوطنية 1953/ 1956، ولازالت عديد من البيوت والدكاكين تتوفر عليها.
وبالنظر إلى رمزيتها الوطنية وخلفيتها الدينية، فقد كان قبولها عاما وطاغيا على ماعداها من صور، إذ بالإضافة إلى رمز الشخص العاري المكبل. كان هناك ملاك بجناحيه يضع يده على كتف السلطان. ولعل الصورة التي شغلت الناس هي تلك التي أوحت برؤية السلطان محمد الخامس في القمر، فقد كانت تُوزع وتُباع صورة للملك محمد الخامس، ويطلب من الشخص أن ينظر في نقطة سوداء كالخال في الصورة، فإذا رفع عينيه إلى السماء رأى صورة محمد الخامس في العلا أو في السماء أو في القمر نتيجة حالة نفسية وإشباع بصري، بل ذهب بعضهم إلى أن أحد أفراد عائلته قام باستخدام خادم <=أي جني> في طباعة الصورة على القمر، أي أن الأمر لايرتبط بالصورة فقط بل “بحقيقة طباعتها” على سطح القمر. وقد حيكت حول هذه الصور حكايات تمتزج فيها الصورة بالأسطورة والصورة بالخيال.
لا شك أن إبداع هذه الصور للسلطان، كان هدفه إبقاء صورة الملك مستمرة في ذهنية الشعب، وهي إحدى الوسائل التي أبدعتها الحركة الوطنية، رغم الجدل الدائر حولها، فالبعض يزعم أن فكرة صورة القمر أبدعها سعيد بونعيلات، والبعض الآخر يقول إنها إبداع جماعي، وآخرون يؤكدون أن خلية المقاومة في البيضاء هي صاحبة الفكرة والتنفيذ.
صور المقاومين:
إن أهم صور المقاومين التي كان لها تأثير جماهيري، كانت صورة محمد بن بريك -حمان الفطواكي- أحد المقاومين في خلية مراكش، والتي أخذت أثناء جلسات محاكمته مع باقي المقاومين في 1954، وانتهت بإعدامه مع ثمانية من المقاومين من مراكش و 6 من البيضاء و 4 من فاس في نفس السنة، إلا أن الرسام أعجب خاصة بصورة الفطواكي، الذي كان يعتمر طاقية مع أن كل المقاومين كان لهم الدور الأهم. كان الرسام و اسمه المهدي بن عبد الحق معجبا بنظرات الفطواكي وجلده، وربما متأثرا بالطريقة التي اعتقل بها في الزمان والمكان وهو بالحمام في ليلة عيد الأضحى، فانتشرت هذه الصورة بعد الاستقلال، نقلت عن جريدة فرنسية، كانت تصدر في المرحلة الاستعمارية، وقد أبدع الرسام المهدي بن عبد الحق وهو موظف سابق في وزارة الداخلية بالرباط، وكان صديقا للموسيقار محمد عبد الوهاب وله مراسلات معه خلال الأربعينيات والخمسينيات، وبعد ذلك كما كان الموسيقار يهدي بن عبد الحق أسطواناته دائما، حتى أن خزانته كانت تجمع كل الأغاني وبتوقيع الموسيقار.
كانت صورة المقاوم الفطواكي، الصورة الوحيدة التي عرفت للفنان المهدي بن عبد الحق، والذي سبق للشاعر محمد بن ابراهيم، أن كتب قصيدة في والده الفقيه والعالم عبد الحق، ولم تعرف للمهدي بن عبد الحق صور أخرى – يقال أن له رسوم أخرى غير معروفة-، لكنها قد تكون بيضة الديك كما يقال ، فقد أسست منحى بصريا، ارتبط في ذهن الجماهير الشعبية، بالشخصية والنضال والعطاء، وبرمز أصبح بفضل الصورة أشهر المقاومين المغاربة.
تطور الصورة:
ازداد تأثير الصورة مع ازدياد التطور التقني، حتى بعد ظهور مايعرف بالتركيب أو تزييف الصور وبعد ظهور التلفزيون واتجاه الجرائد إلى نشر الصور، تحولت الصورة إلى مقال ينافس المكتوب، بل يُجاوزه في كثير من الأحيان خصوصا مع ظهور الشبكة العنكبوتية، التي تعتمد الصور على ما عداها، حيث أصبح الجمهور يصدق ما ينشر في هذه الشبكة، ولن تنفع أي حجج تسوقها لدحض الأكاذيب المبتكرة عن طريق الصور، و إقناع مدمن الشبكة بأن الأمر في أكثر الأحيان يتعلق بصور مركبة ليس إلا، أو أنها أي الصورة معزولة عن سياقها، أو لا علاقة لها بالخبر أو الحدث. ومع استعمال هذه الصور في تعزيز الاتهامات أمام المحاكم، وأمام الضابطة القضائية وانتشار الكاميرات والهواتف الذكية، فإن الصورة انتقلت من التأثير الخاص إلى تأثير عام، وأصبحت تشكل رأيا وتعزز اتهاما، وقد تستعمل للسخرية والهزء من شخص أو حيوان، دونما اعتبار للسياق، والإيحاء بكونها حقيقة مطلقة أو شبه مطلقة. تقهقرت الكلمة المكتوبة، وحلت محلها الصور في التأثير على الجمهور الواسع، ففي المقاهي والمنازل والنوادي، كل شخص يستبصر هاتفه المرتبط بالشبكة، وبأصدقاء افتراضيين، يرسلون صورا ويبدعون فهم “المحنية رؤوسهم” أمام الصورة المقدسة؛ وتدخلت شركات الاستهلاك الكبرى في العالم في عالم الصور، فصارت تعلن عن سلعها بقوة، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وباتت هي المستفيد الأول من الصورة، للتأثير على النساء والرجال والأطفال في الملبس والغذاء، عبر إعلانات لا تنتهي إلا لتبدأ. فضلا عن التجسس على المستهلكين، وحياتهم الشخصية، ورغباتهم الاستهلاكية، وتوفير الصورة لتغذية هذه الرغبة وتقريب السلعة المطلوبة، بعد الاطلاع عبر جهاز استخباري شديد الدقة، على رغبات هذا الجمهور أو ذاك في مختلف الدول، فتحولت الصورة إلى شرنقة لا تخرج منها “الفراشة” إلا لتقع في شرنقة أخرى، فهناك 52 شركة مواد غذائية تسيطر وحدها على العالم وتبيع نفس المادة ملفوفة بصور مختلفة، وتبدأ معركة الجودة التي تنتهي إلى جيوب أرباب نفس الشركات مهما بيع من بضائع مختلفة، سواء كانت دواء أو سيجارة، لأن الشركة ذاتها تنتج الغذاء و الدواء و السجائر، بأسماء مختلفة وصور متنوعة لسلعها. وهكذا تحولت الصورة إلى منتوج إشهاري هدفه تحقيق الربح لهذه الشركات بمختلف الطرق وعلى رأسها الصور.
*باحث