الفساد في قبضة القانون… النيابة العامة تفتح أبواب المحاسبة بتوجيه ملكي
في خطوة لافتة اعتُبرت بمثابة كسر لجدار الصمت الذي طال ملفات الفساد، وجّه رئيس النيابة العامة، هشام بلاوي، تعليماته إلى جميع النيابات العامة على المستوى الوطني، بإحالة تقارير رسمية توصلت بها الرئاسة من مؤسسات رقابية عليا، على أنظار الشرطة القضائية والدرك الملكي لفتح تحقيقات عاجلة وشاملة. التحرك القضائي المفاجئ جاء بعد أسابيع من تعيين بلاوي في منصبه من قبل جلالة الملك، ما يفتح باب التأويلات بشأن وجود توجيهات عليا صريحة لاستعادة هيبة الدولة وربط المسؤولية بالمحاسبة.
القرار، الذي أتى في ظل صمت حكومي غير مبرر تجاه تقارير ثقيلة صادرة عن المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للإدارة الترابية، أعاد الاعتبار لمبدأ استقلالية النيابة العامة، وطرح سؤالاً عريضاً: هل نشهد بداية سياسة جنائية جديدة تُدار من داخل مؤسسات الدولة، بعيدة عن حسابات الحكومة والأحزاب؟
المبادرة القضائية لقيت صدى واسعاً داخل الأوساط السياسية والحقوقية، وأثارت موجة قلق في صفوف عدد من المنتخبين ورؤساء الجماعات والمجالس الإقليمية، الذين باتوا يعيشون حالة من الترقب والخوف من أن تطالهم التحقيقات الجارية، خصوصاً أن التقارير المحالة تتضمن اختلالات مالية وتدبيرية عميقة تهدد المسارات السياسية لعدد من الأسماء مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة.
التحرك اعتبره مراقبون مؤشراً على انتقال رئاسة النيابة العامة إلى مرحلة الفعل بعد سنوات من الجمود، حيث ظلّت ملفات الفساد حبيسة الأدراج، إما بسبب غياب الإرادة السياسية، أو بفعل تأويلات قانونية ضيّقت مجال التحرك.
القراءة القانونية لهذا التحول رأت فيه “ضربة قوية” لمقاربات التراخي والتأجيل، ورسالة صريحة للحكومة، التي تُتهم من طرف هيئات المجتمع المدني بعرقلة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، عبر تقييد دور الجمعيات ومنعها من الترافع في هذا المجال.
ويؤكد خبراء قانونيون أن خطوة رئاسة النيابة العامة تنسجم مع الاختيار الديمقراطي والدستوري للبلاد، لكنها تطرح في المقابل إشكالات قانونية حول مدى إمكانية تحريك الأبحاث بناء فقط على تقارير رقابية، دون إحالة رسمية من الجهات المختصة، وعلى رأسها الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات.
في هذا السياق، أوضح فاعلون حقوقيون أن المادة 111 من مدونة المحاكم المالية لا تمنح لرئيس النيابة العامة صلاحية تلقائية لتحريك المتابعات، بل تشترط وجود مسطرة إحالة واضحة، وهو ما يتطلب تنسيقاً مؤسساتياً بين أجهزة الرقابة والقضاء لضمان تفعيل المحاسبة دون خرق للضوابط القانونية.
وبالرغم من هذه الإشكالات، فإن التحرك الأخير اعتُبر تحويلاً حقيقياً في التعاطي مع الفساد، وتأكيداً على أن رئاسة النيابة العامة، بتزكية ملكية واضحة، بصدد استعادة زمام المبادرة لفرض القانون ومحاسبة المتورطين، بعيداً عن الحسابات السياسوية التي أفرغت مفهوم تخليق الحياة العامة من مضمونه.
ويرى متابعون أن ما جرى ليس فقط تحركاً عابراً، بل هو بداية معركة مؤسساتية تتقاطع فيها الإرادة الملكية بإرساء دولة القانون، مع تردد حكومي يثير تساؤلات، خصوصاً في ظل استمرار تجميد مبادرات إصلاحية حاسمة، وعلى رأسها تنزيل حقيقي لاستراتيجية محاربة الفساد.
وبينما تتفاعل التحقيقات القضائية الجارية، وتُفتح الملفات التي طالها الغبار، يبقى الرهان قائماً على استقلالية النيابة العامة، وقدرتها على المضي قدماً في محاسبة المتورطين مهما كانت مواقعهم، تجسيداً لشعار: لا أحد فوق القانون.