يستدعي الحديث عن مفاهيم كحرية التعبير والديمقراطية مقاربة تتجاوز التصورات النمطية والتفسيرات المجردة لهذه المفاهيم، إلى الغوص في أعماق العلاقات التفاعلية بين الفكر والبنية المجتمعية. إذ لا يمكن التعامل مع هذه المفاهيم بوصفها قيما كونية مطلقة، قادرة على التغلغل بسلاسة في كل سياق دون أن تتعرض لإعادة تشكيل تُفرض عليها بفعل طبيعة الأرض التي تغرس فيها.
• حرية التعبير والديمقراطية: من قيم التنوير إلى طقوس التمييع
حرية التعبير ليست مجرد ممارسة فردية مضمونة بحقوق مكتوبة، بل هي نتاج سيرورة طويلة من التهذيب الثقافي، حيث يصبح التعبير مسؤولية تتجاوز الذات إلى الآخر. ففي المجتمعات التي لم تستوعب بعد الحدود الفاصلة بين نقد الأفكار وتجريح الأشخاص، تتحول حرية التعبير من أداة للتنوير إلى منصة للتهريج، ومن وسيلة للإصلاح إلى فضاء للتسطيح. فالسؤال هنا: هل يمكن لمفهوم الحرية أن يثمر في بيئة لم يُزرع فيها بعد وعي عميق بمعنى الحرية ومقاصدها؟
أما الديمقراطية، فهي في أصلها فلسفة إدارة الاختلاف وتدبير الشأن العام بما يضمن توازن الحقوق والواجبات. لكنها قد تتحول في سياقات بعينها إلى واجهة شكلية، تختزل في صناديق الاقتراع وأرقامها، دون أن تمتد إلى عمق التجربة الإنسانية في الحوار والتفاوض. فهي ليست مجرد هيكل سياسي، بل منظومة قيمية تتطلب بيئة مؤهلة لفهمها وتفعيلها بما يتجاوز طقوس الانتخابات إلى عمق المؤسسات، والوعي المجتمعي المشترك.
• الفجوة بين المفاهيم الرقمية والواقع التكنولوجي
إن إسقاط هذه المفاهيم على الواقع الذي أفرزته التكنولوجيا الحديثة، لا سيما منصات التواصل الاجتماعي والصحافة الرقمية، يكشف عمق الفجوة بين النظرية والممارسة، وبين القيم في بعدها الفلسفي والتجليات التي تفرزها بيئات لم تنضج بعد لتحتويها بمسؤولية. فقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي مسرحا فوضويا، حيث تمارس حرية التعبير بلا كوابح أخلاقية ولا ضوابط قيمية، وتُحول إلى أداة للاعتداء على الخصوصيات والنيل من الأشخاص، في تماه خطير مع ثقافة “الإلغاء” والهجوم الشخصي. فالتدوينات والفيديوهات على هذه المنصات، التي يُفترض أن تكون فضاء لتبادل الأفكار وانتقاد السياسات والممارسات، انزلقت إلى مستويات خطيرة من الإسفاف. باتت ترى في النقد ذريعة للتجريح، وفي التعبير وسيلة للتشهير، حيث يحاكم الأشخاص على حياتهم الخاصة، لا على أفكارهم أو مواقفهم العامة. أصبحنا نشهد موجات من المحتوى المبتذل الذي يستثمر في التشهير لتحقيق شهرة زائفة أو مكاسب مادية، على حساب قيم الحوار والنقد البناء.
• صحافة بلا مهنية في عصر الفوضى الرقمية
في مجال الصحافة الرقمية، فقد فقدت في كثير من الأحيان بريقها كسلطة رابعة تعنى بفضح الفساد وإرشاد الرأي العام، وتحولت إلى مجرد أداة للتهريج الإعلامي والتصيد الرخيص. كيف يمكن أن نصف واقعا يمنح فيه شخص أمي أو محدود الثقافة تصريحا كصحفي، فيحمل ميكروفونا وكاميرا، ويجوب الشوارع دون أدنى وعي بأخلاقيات المهنة؟ بات هذا “الصحفي الافتراضي” يعترض سبيل الناس، يلزمهم بالإدلاء بتصريحات تحت الضغط أو التهديد الضمني بالتشهير. يصورهم دون إذن، يقتحم خصوصياتهم، وينشر دون أي احترام للكرامة الإنسانية أو للقوانين التي تجرم هذه السلوكيات. هذا المشهد يعكس بوضوح تمييع المفاهيم: إذ تحولت حرية التعبير إلى غطاء لثقافة “الصراخ الرقمي”، وتحولت الصحافة إلى ساحة عبثية يختلط فيها الجاد بالهزلي، والمؤهل بالطارئ. وإذا كان من الطبيعي أن تسهم التكنولوجيا في انفتاح المجال العام، فإنه من غير الطبيعي أن تترافق مع هذا القدر من التسيب الأخلاقي وانعدام المسؤولية.
• الحاجة إلى منظومة قانونية تحمي القيم
الإشكالية هنا مزدوجة: فمن جهة، تعاني البنية المجتمعية من ضعف في الثقافة المدنية والوعي الأخلاقي الضروريين لاستيعاب هذه الأدوات واستثمارها في الإثراء لا الهدم. ومن جهة أخرى، تغيب التشريعات الرادعة والرقابة، ما يترك الباب مفتوحا أمام الانتهاكات. والنتيجة أن هذه المفاهيم، بدل أن تخدم تطور المجتمعات، أصبحت تسهم في تشويه القيم وإعادة إنتاج مظاهر التخلف بواجهات جديدة. فهل يمكننا الحديث عن “حرية” في ظل غياب المسؤولية؟ وهل يمكن أن نثق في “صحافة” تفتقر إلى أدنى مقومات المهنية؟ أم أن هذا الواقع يستدعي منا وقفة تأملية تعيد ترتيب الأولويات: تأهيل المجتمعات قبل تعميم المفاهيم، وتشريع القوانين التي تحمي القيم قبل الانفتاح غير المشروط على كل جديد؟
إن هذا الواقع الذي يعكس تمييعا خطيرا للمفاهيم الكبرى يضعنا أمام حاجة ملحة لإعادة النظر ليس فقط في البنية الثقافية والاجتماعية، بل أيضا في المنظومة القانونية التي باتت عاجزة عن مواكبة التطورات السريعة التي تشهدها الوسائل الرقمية والإعلامية. فالفراغ التشريعي، أو التراخي في تطبيق القانون، هو الذي سمح لهذه الفوضى بأن تتحول من حالات شاذة إلى ظواهر متفشية تهدد القيم المجتمعية وتفسد الفضاء العام. رغم أن المنظومة القانونية وحدها ليست الحل النهائي لهذه الإشكاليات، لكنها تمثل الأساس الذي يمكن البناء عليه. فالتقنين العادل والشامل هو سياج يحمي القيم من الانزلاق إلى مستنقعات الفوضى والتمييع. أما ترك الأمور على حالها بحجة الحرية المطلقة فلن يؤدي إلا إلى مزيد من التشويه للمفاهيم التي كان يفترض أن تكون أدوات للنهوض بالمجتمعات لا لإسقاطها. والسؤال اليوم لا يتعلق فقط باحتواء الانفلات الحالي، بل بمدى استعدادنا لتطوير منظومات قانونية تواكب تحديات العصر، وتضع حدا للفوضى دون أن تفرط في جوهر القيم التي نسعى جميعا لحمايتها.
لذلك فإن الأولية هي وضع منظومة قانونية تضع حدودا واضحة بين النقد المباح والتشهير المرفوض، مع سن عقوبات رادعة ضد من يستغلون هذه الحرية كغطاء للاعتداء على الأشخاص والطعن في خصوصياتهم. ولا يكفي إصدار القوانين فقط، بل يتعين أن ترافقها آليات تضمن التطبيق السريع والعادل، مثل منصات للإبلاغ عن المحتوى المسيء وآليات لمعالجته في الوقت الفعلي. إلى جانب ذلك، أصبح من الضروري إعادة النظر في شروط منح تصاريح العمل الصحفي، بحيث تتطلب معايير مهنية وأكاديمية صارمة. فلا يمكن أن يترك المجال مفتوحا لكل من يحمل ميكروفونا وكاميرا ليمارس الصحافة دون وعي بأخلاقياتها ومسؤولياتها.
• تأهيل المجتمعات قبل تعميم المفاهيم
تبقى الإشكالية في كون هذه المفاهيم لا تقاس بحد ذاتها، بل بقدرتها على التكيف مع التربة التي تحتضنها. فهي كالبذور: خصوبة الأرض ووعي الفلاح هما ما يحددان طبيعة الحصاد. وعليه، إذا لم تتهيأ البنية المجتمعية بفعل التعليم، والثقافة، والتربية على قيم النقد المسؤول والمشاركة الواعية، فإن هذه المفاهيم تتحول إلى ظلال مبتورة، تجوب فضاء مشوها لا يسعها ولا يحتضن جوهرها.
هل نحتاج إذن إلى إعادة النظر في استيراد هذه المفاهيم كما هي، أم أن علينا العمل على صياغة جديدة لها، تتواءم مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية ؟ ربما تكون الإجابة ليست في المفاهيم ذاتها، بل في الممارسة التي تجعلها قابلة للحياة والازدهار، أو تلقي بها في غياهب التشويه والمبالغة.
بقلم محسن الأجرومي: باحث في القانون العام والعلوم السياسية