وزارة الداخلية تفضح وزارة الفلاحة بأرقام القطيع… صدمة سياسية وأسئلة عن المحاسبة
أثار تضارب المعطيات الرسمية حول حجم القطيع الوطني من الماشية عاصفة من الجدل داخل الرأي العام الوطني، بعدما كشفت وزارة الداخلية أرقاما جديدة تناقض بشكل صارخ ما سبق أن أعلنته وزارة الفلاحة. فبينما أكدت الوزارة الوصية في بيانات سابقة أن عدد رؤوس الماشية لا يتجاوز 32 مليوناً، خرجت وزارة الداخلية بأرقام ميدانية تشير إلى أن القطيع الوطني يصل إلى حوالي 39 مليون رأس، أي بزيادة تناهز سبعة ملايين رأس. هذه الفجوة الرقمية لم تعد مجرد تفصيل تقني أو خطأ في الإحصاء، بل أصبحت معطى يمسّ الثقة في المؤسسات العمومية ويطرح بحدة سؤال المصداقية والشفافية.
المعطيات التي قدمتها وزارة الفلاحة في فبراير الماضي تحدثت عن وجود 18 مليون رأس فقط من الأغنام والماعز، وهو رقم أقل بكثير من المعدلات المسجلة في السنوات الأخيرة، واستُخدم آنذاك لتبرير ارتفاع أسعار اللحوم والأعلاف. غير أن الأرقام التي جاءت بها وزارة الداخلية اليوم تعطي صورة مغايرة وتضع علامات استفهام كبرى حول أسباب هذا التباين. فهل نحن أمام طفرة إعجازية في ظرف أشهر قليلة، أم أن الأمر يتعلق بتلاعب خطير في الأرقام يخدم أجندات معينة؟
ورغم هذه “الوفرة الرقمية”، فإن أسعار اللحوم لا تزال ملتهبة، وهو ما يضاعف معاناة الأسر المغربية مع تدهور القدرة الشرائية. لذلك يظل السؤال مطروحا بإلحاح: إذا كان القطيع الوطني يناهز فعلا 39 مليون رأس، فلماذا لا يلمس المواطن ذلك في جيبه؟ ومن المستفيد من لعبة الأرقام التي حكمت قرارات الدعم وصاغت خطاب الأزمة؟
إن تضارب الأرقام بين وزارتين سياديتين يكشف خللا عميقا في منظومة التدبير العمومي. فلا يُعقل أن يظل وزير الفلاحة متفرجا أمام فقدان الثقة في معطيات وزارته، فيما يقتضي الأمر تقديم توضيحات دقيقة للرأي العام والبرلمان. فالأمن الغذائي ليس ملفا هامشيا، بل قضية استراتيجية تمس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وأي تلاعب فيه يمثل خطرا مباشرا على مصداقية الدولة.
وفي ظل هذا الوضع، يظل المربون الصغار والمتوسطون الحلقة الأضعف، إذ يواجهون يوميا تكاليف الأعلاف الباهظة وضعف الدعم الحقيقي، بينما تُستخدم أرقام متناقضة لتبرير استمرار الوضع القائم. هؤلاء يشكلون العمود الفقري للفلاحة الوطنية، وكان الأجدر بالسياسات العمومية أن تنصفهم بدل أن تنحاز للوبيات الكبرى المتحكمة في السوق.
لقد شدد جلالة الملك في أكثر من مناسبة على أن المسؤولية تعني المحاسبة، وأن ربط المنصب بالنتائج قاعدة دستورية وليست خيارا سياسيا. واليوم يجد المسؤولون عن قطاع الفلاحة أنفسهم أمام اختبار حقيقي، حيث لم يعد مقبولا أن تبنى القرارات على تقارير واهية أو بيانات متضاربة. والمطلوب فتح تحقيق شفاف حول أسباب هذا التضارب، والكشف عن الجهة التي استفادت من تضخيم أو تقليص الأرقام، واتخاذ إجراءات تعيد الثقة للمغاربة في مؤسساتهم.
إن ما وقع لا يجب أن يبقى مجرد تراشق رقمي بين القطاعات الحكومية، بل محطة لإعادة النظر في سياسة إحصاء وتدبير القطيع الوطني باعتباره عنصرا أساسيا في الأمن الغذائي للمملكة. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الصدق مع المواطن، والقطع مع كل أشكال التضليل أو التسييس، حتى تظل مؤسسات الدولة جديرة بثقة المغاربة.