لم يُخفِ رئيس الحكومة التونسية الأسبق، حمادي الجبالي، تأثُّره وحزنه العميق على اغتيال الصحفي السعودي المعروف جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول بالثاني من أكتوبر الجاري، معتبراً الرواية السعودية الرسمية استهزاء واستهتاراً بالرأي العام الدولي، و”لا يمكن لأي عاقل أو صبي أن يصدّقها”.
الجبالي شدد في حوار له مع موقع “الخليج أونلاين” بمنزله في مدينة سوسة الساحلية، على أن عملية اغتيال خاشقجي، الذي وصفه بـ”الصوت العاقل الخافت”، دليل على خوف الأنظمة العربية من شعوبها، مشيراً إلى أن الصحفي السعودي قُتل لأنه عيّنة من عينات استفاقة هذه الشعوب.
كذلك، لم يُخفِ رئيس الحكومة التونسية الأسبق لومه للطبقة السياسية في تونس، وعلى رأسها حركة النهضة، على خلفية عدم تنديدهم بهذه الجريمة، مؤكداً في الوقت نفسه، أن هذه الجريمة لو كانت حدثت إبان تولّيه رئاسة الحكومة، فإنه كان سيستدعي السفير السعودي لدى تونس؛ للتعبير عن موقفه وعن صدمة الشعب التونسي مما حدث، بصرف النظر عن الحسابات.
وفيما يلي، الجزء الأول من الحوار، الذي نشره موقع “الخليج أونلاين” :
ما تعليقك على الاعتراف السعودي بقتل جمال خاشقجي؟
بداية، أترحم على جمال خاشقجي وعلى كل الصحفيين والأقلام الحرة في العالم، ومن بينهم الصحفيان التونسيان اللذان قُتلا بليبيا (عُثر على جثتيهما في سبتمبر الماضي، بعد اختطافهما في 2014). وفيما يتعلّق باستشهاد جمال، فلدي 3 استنتاجات من هذه الحادثة، أولها أن عملية قتله مرعبة ولم تفاجئني؛ بالنظر إلى تصرفات هذه الأنظمة، ومن الوحشية أن يُقتل شخص لأنه تكلم ضد شخص آخر، ويُقطّع بالمنشار وهو خارج بلاده، فقط لأنه تكلم وأعطى رأيه في شخص ما..! وهذا يدل على أن البلدان العربية ما تزال بعيدة أشواطاً وسنوات من النضال والصمود والثورة لنيل حقوقها، وما قتل جمال إلا دليل على أن هذه الأنظمة تخشى شعوبها إلى درجة كبيرة.
الاستنتاج الثاني يتمثل في الاستخفاف بالرأي العام الداخلي والخارجي والاستهزاء به، فيما يخص تركيب سيناريو لا يمكن أن يصدقه أحد. والثالث أن هذه القضية دخلت في متاهات وسيناريوهات وتخريجات لتبرئة القاتل، كلها تدور حول المصلحة والدولار. لهذا، فإنَّ قتل جمال خاشقجي جريمة في حق شعوبنا وفي حق القيم التي نؤمن بها، ودليل على أن هذه الأنظمة ما تزال بعيدة سنوات ضوئية عن بناء مجتمعات ديمقراطية تسودها الحريات والعدالة.
هل تصدّق الرواية الرسمية السعودية أم الرواية التركية غير الرسمية التي تقول إنه قُتل وقُطّع؟
الرواية الرسمية السعودية استهزاء واستهتار بالرأي العام المحلي والدولي، ولا يمكن أن يصدّقها عاقل أو صبيّ؛ لأن عملية قتل جمال سبقها إضمار وترصُّد وتخطيط وصدور أوامر واضحة المصدر..
ما تفسيرك لصمت حركة النهضة ومعظم الطبقة السياسية في تونس إزاء هذه الجريمة المروّعة؟
أنا أتساءل قبل حركة النهضة وأحزابنا، المطالَبة أساساً بالدفاع عن القيم: أين مواقف صحفيينا؟ لذلك، فإن المواقف لم تتسم بالشجاعة والوضوح بحيث تدين الفاعل؛ بسبب حسابات جعلت الكثيرين يخشون الظالم، ويرتهنون لمصالح ضيّقة، طمعاً في حفنة من الدولارات. أما من يقول إن السكوت في هذه المناسبات فيه حكمة لأن هنالك مصالح وغيره، فأقول له إن مسألة الحريات التي أصبحنا نتمتّع بها من دون منّة من أحد، هي من صميم الثورة التونسية.
ولقد صُدِمتُ حقيقةً من خفوت الأصوات وتغليب الحسابات من الإعلاميين والسياسيين، وعلى رأسهم حركة النهضة التي عرفتُها كحركة تدافع عن القيم؛ لهذا فإن من لم يُدِن هذه الجريمة فليس من أبناء الثورة؛ بل هو خارج إطارها؛ لأن جمال خاشقجي هو الصوت العاقل الخافت الذي خرج من تلك البقاع.
لو حصلت هذه الحادثة أيام تولِّيك رئاسة الحكومة، هل كنت ستستدعي السفير السعودي لاتخاذ موقف رسمي من هذه الجريمة؟
أنا أؤكد لك أنني كنت سأفعل ذلك، على الأقل للتعبير عن رأيي وعن صدمة الشعب التونسي مما حدث، بصرف النظر عن الحسابات.. لن أقطع العلاقات ولا أي شيء من هذا القبيل، لكن كنت سأتخذ موقفاً واضحاً، كلّف ذلك ما كلّف، ومن دون حسابات ضيّقة؛ لأن مصلحة تونس تكمُن في مناصرتها القضايا العادلة، على غرار القضية الفلسطينية شبه الغائبة عن مواقف حكومتنا وأحزابنا، والتي قال عنها جمال خاشقجي: “إن القضية الفلسطينية في القلب”.
ما رأيك في الدور السعودي بالمنطقة منذ صعود ولي العهد الشاب محمد بن سلمان؟
المنطقة دخلت في جو من التوتر والفوضى لم يسبق له مثيل، أسهمت فيه القوى الدولية المتصارعة على الأسواق والبترول والمصالح، والمسألة تدور الآن حول رفض هذه الشعوب ما يحدث والخوف من انعتاق المواطن العربي وتحرُّره لبناء نفسه ومجتمعه، إضافة إلى الخوف من الحريات والتطور والتقدم، وكل هذا يدلّ على أن هذه الأنظمة ترفض كل صوت حر في المنطقة؛ لأنها تعتبر ذلك ضرباً لمصالحها ومصيرها، واغتيال خاشقجي يأتي في هذا الإطار.
لكننا نتحدث هنا تحديداً عن الدور السعودي في المنطقة العربية منذ صعود بن سلمان؟
منذ صعود بن سلمان، زاد الاضطراب والتوتر، وخاصة الاحتقان لدى الشعوب، فداخل كل البلدان نجد شعباً نازحاً في بلده، وبالكاد سلمت دولة أو شعب عربي من هذه الفوضى والحروب الأهلية، وهذا ناتج عن التغيير الذي حدث بالسعودية، ودور الإمارات في تخريب المنطقة، وهي السبّاقة في ذلك. كما أنه ناتج عن دور وحسابات ومطامع القوى الدولية في المنطقة، كذلك دور إسرائيل المحوري، حتى إننا أصبحنا نجد تكتّلاً رهيباً بين أنظمة عربية وإسرائيل إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية. المنطقة دخلت اليوم في مرحلة من التوتر والغليان وقمع الشعوب وضرب قيمهم ومطالبهم بالحرية، وهي تسير من السيئ إلى الأسوأ. حروب لن تنتهي بسبب التطاحن المذهبي والقبلي الداخلي الذي يستنزف الشعوب، في حين تمر إسرائيل بأبهى فتراتها؛ لأنها استطاعت أن تُلهي هذه الشعوب بتطاحن داخلي لن ينتهي.
ما تفسيرك للتقارب السعودي – الإماراتي مع إسرائيل؟
هناك التقاء مصالح، فاستفاقة الشعوب العربية تهدّد هذه الأنظمة وتهدد “إسرائيل” في الوقت نفسه، ولم تشعر “إسرائيل”، في يوم من الأيام، بأي خطر أكبر من المقاومة الفلسطينية ومن الثورات العربية؛ لذلك فإن هدف هذا التقارب مزدوج، وهو ضرب الثورات العربية والعمق الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية. وهذان النظامان يخشيان استفاقة شعبيهما والثورة عليهما؛ لأن الثورة ستحمل قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والانتخابات وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا يناقض نمط حكم هؤلاء.
الآن أصبحنا نرى نتنياهو يتبجّح بالقول إن له مناصرين وحلفاء التقوا على هدف واحد وهو مقاومة إيران، وفي ذلك استبلاهٌ وتعنّت وفتنة قامت في المنطقة ولن تنتهي، من خلال إثارة قضية مذهبية (سُنة – شيعة)، وهي ليست بقضية الشعوب التي تتصدّرها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية وحقوق الإنسان.
هل تعتقد أن “إسرائيل” بإمكانها منع الأنظمة المتقاربة معها من السقوط؟
هذا راجع لشعوب هذه الدول، وأنا مقتنع بأن الثورات لا تُصدَّر وإنما الشعوب هي التي تقرّر مصيرها، وأؤكد هنا أن جمال قُتل لأنه عيّنة من عينات استفاقة هذه الشعوب، لم يستسيغوا أن يتكلم شخص بِحُرية؛ لأن ذلك غريب عنهم، ولا بد من انتهاء الأمر بأي شكل من الأشكال؛ لكون ذلك ظاهرة خطيرة؛ لهذا فأنا أقول إن “إسرائيل” لا تستطيع أن تمنع اندلاع أي ثورة عربية، صحيح أنها عطّلت بعض الثورات وتآمرت عليها مع الانقلابيين، ولكنها فقط تؤخّر حدوثها.
حسب رأيك، هل فقدت السعودية مركزها ومرجعيّتها ودورها الفعّال في قيادة العالم الإسلامي؟
لا شك في ذلك، فالعالم الآن قد استفاق على شيء عظيم (في إشارة إلى حادثة اغتيال جمال خاشقجي)، ربما لم يكن واضحاً لكثير من عامة الناس، فلا يمكن أن يُقتل إنسان مع رفع شعار خادم الحرمين الشريفين أو الإسلام أو القيم، فالنفس البشرية التي كرّمها الله -سبحانه وتعالى- مقدّسة، وما حدث أسقط أقنعة كثيرة.
المصدر / موقع “الخليج اون لاين”