الدكتور فيصل درّاج – فلسطين
كان للشاعر، في صبانا، هالة توطّدها الصحف، وللصحف هالتها أيضاً، تتسع إن كانت قاهرية صادرة عن “وادي النيل”. وهالة الشاعر عندنا، نحن الشباب آنذاك، تزداد إن كان فلسطينياً ينظم “مآسينا” شعراً، ورائداً لا يكذب أهله. وكان عز الدين المناصرة شاعراً “منّا” اعترف به المصريون، يضيف جديداً إلى غضب “أبي سلمى” وتأملات إبراهيم طوقان، الذي رحل شاباً، واعتبره محمود درويش الأفضل بين شعراء فلسطين قبل النكبة. كبرت هالة عز الدين حين عرفنا، ونحن في بداية الدراسة الجامعية، أنه كتب شعراً ولم يكمل الخامسة عشرة من عمره. نشره عام ،1962 وهو الذي ولد عام 1946.
التقيته، للمرة الأولى، في بيروت الحرب الأهلية، ربيع 1975، حيث رعب القذائف والرصاصات الطائشة وتقاتل طرفين، يشرف عليهما ثالث يزوّدهما بالسلاح ويمعن في القهقهة. كنتُ أتهيّب من لقاء الشعراء ولا أشعر بمسرّة، “مبدعين” من نوع خاص أراهم، تلازمهم غرابة تثير الفضول ولا تعثر على جواب. والشعر. عربياً، كما قيل، جاء من “وادي عبقر” والشعراء عباقرة، لم يقنعني السبب ولا النتيجة.
توقّعت أن أرى في عز الدين، أو “عزّ”، كما كنا ندعوه في بيروت، “العبقري المنتظر” وأن تلحق بي الندامة وتوقعت، أكثر، أن ألتقي الشاب الشهير مع “سيارة” وآثار نعمة. غير أن “عز” كذّب ظني، بل سحقه سحقاً، فهو الضاحك البسيط المتذمّر لسبب والناظر، أبداً، إلى الانعتاق لسبب أيضاً، الشاعر الموفور الألفة، كأنه ليس من الشعراء، تلازمه السخرية ملازمة السوار للمعصم والشفتين للأسنان. سخرية لا تَرَف فيها ضاقت بعمل “إعلامي”، يملؤه الفراغ، وبعاملين ضاقوا به، وهو الذي لا يحسن الانصياع ولا يطيق القامات المتناظرة.
كان إذا ذكر موقع عمله يقول: “أبو شاكر من فوق” قرب الجامعة العربية، ويكمل سخريته ليقول “أبو شاكر من تحت”، إن أردتَ، ولم يكن يرتاح إلى الموقعَين، ويتشوّق إلى عمل مفيد يربطه بمدينة “الخليل”. كان فيه صورة المثقف المغترب، الذي أبعدته “الإدارة الرخوة” عمّا أراده وحرصت إرادته أن يظل متكاملاً. أو صورة الصبي الذي سرّح نظره في فضاء البحر الميت، الذي أطلت عليه في زمن غنائي بلدته “بني نعيم”، وضاق بجدران “المكتب” وشخصياته الأكثر ضيقاً. لعله سخر في قصيدته القصيرة “مكتب” من مسؤولين توهّموا اتساع النظر.
كان يبدو لي، وهو يشير إلى نكبة متقادمة و”هزيمة قادمة”، شاعراً جوّالاً هربت منه قصيدة لم يكملها، فلاحاً أسمر اللون ينتظر المطر، أو حالماً متدفق الكلام أضاع مدينته الأولى. قال لي في اللقاء الأول: أعمل في “مجلة فلسطين الثورة”، ونطق بكلمة “أعمل” متعاجباً، وأعاد نطقها بحروف متقطعة الأوصال. أكمل: لن تراني فيها طويلاً، فالعملة الرديئة تقهَر العملة الجيدة، وإدارة الرداءة تضيق بأنصار الحقيقة. ألجأته الرداءة، بعد حين، إلى السفر إلى بلغاريا حيث حصل على درجة الدكتوراة في الأدب من جامعة صوفيا عام 1981. لاحقته الرداءة، أثناء دراسته، ذلك أن “الوطنية المتعالمة” كثيرة الأبناء.
“أرجو أن لا يكون الوقت متأخراً”، يقول هذا وهو يزورني بلا ميعاد، في بيتي القائم في كورنيش المزرعة، في بيروت الغربية. يأتي بوجه ضاحك وفي فمه سيجارة ويسارع إلى القول: المطلوب، كما أعتقد، الحفاظ على نظافة البيت. يمسح الغبار، ويقرّب منه “مطفأة سجائر”، ويكمل تدخين سيجارته ويطفئها في الموقع الخطأ مردّداً: الاعوجاج لا شفاء له. لكن لاعوجاجي أسبابه، كما تعلم يا صاح!! أردّ عليه: أنا أتعامل مع الصحافة، ولست عاملاً في صحيفة ثورية…. وأطلب منه قراءة قصيدة، مقابل اعوجاجه الذي لا يستقيم.
أطلب منه قراءة قصيدته: “يا عنب الخليل”، التي كتبها في القاهرة ـ 1966 ـ كان في الطلب ترحيب به، وهو الخليلي الأصيل، الذي أشهر عنباً لا يحتاج إلى من يُشهره. لكل مكان مقدّس ثمر يحيل إليه، أو له رمز واضح الملامح. كان في نهاية القصيدة بيتان حفظتهما، مع غيري، منذ زمن: “خليليّ أنتَ يا عنب الخليلي الحرّ لا تثمر. وإن أثمرتَ كن سُمّاً على الأعداء، لا تثمْر.”. كان “عز” إذا قرأ مقطعه الرابع في القصيدة: “ومَرْمَرَنا الزمان المرّ يا حبي، يعزّ عليّ أن ألقاك … مسبيّة”، يقول: اعذرني ففي لساني عَوَج ويقول: “ومرمرنا الزمان المرّ يا مرمر” مستعيضاً عن الراء بالغين، يطلق ضحكة عامرة، وينهبها بعينين حائرتين، كما لو كانت فلسطينيتّه “المُرّة” تأبى عليه استذكاراً ترافقه قهقهة.
“إننا نعيش كفلسطينيين بالذاكرة ومعها، إن سقطت تساقطنا معاً”. هكذا قال لي، ذات زيارة مفاجئة، في “دارة الفنون” في عمّان. لم أكن رأيته منذ عقدين، ربما، وإن كان حاضر الصورة في كلام أصدقاء من دمشق، وجمل كريم مروّة، اللبناني الذي أعطى كتاب “المثقفون الفلسطينيون وقضية الحريّة”، وملاحظات الراحل الكبير د. إحسان عباس، عن “اجتهاد عز الدين في موضوع الحداثة” الجدير بأكثر من حوار، وفي حديث الروائي الجزائري الراحل: الطاهر وطّار. ذلك أن المناصرة عمل طويلاً في الجزائر، ولقي الترحيب والتكريم، … وكان حاضراً في ذاكرتي بجهده الثقافي الموزّع على الشعر والنقد التشكيلي والسينمائي، وعلى موقف وطني لا يفصله عن شعره، ولا ينفصل شعره عنه. كما لو أن عينيه تشيخان، وقلبه الفلسطيني عصيّ على الراحة والشيخوخة.
كانت ثقافته تفيض على طريقة كلامه، وكثيراً أفادني في كلامه الثقافي العفوي، الأقرب إلى الارتجال، في أكثر من لقاء. حدّثني عن صلاح عبد الصبور ومحمد عفيفي مطر وتيسير سبول، فإن رجعت به الذاكرة، فلسطينياً، إلى الوراء، مرّ على ذكر مطلق عبد الخالق، شاعر حداثي فلسطيني من الروّاد، ونوح إبراهيم الشاعر الشعبي الذي أنشد ثورة 1936،….
قلت له مرة: تحتفي ذاكرتك بالشعراء قبل غيرهم، أجاب: الشعر حرية أفقها مدينة فاضلة. تذكّرت حينها، عبد القادر الحسيني ينشد الشعر، عائداً من دمشق يوم الاثنين ـ نيسان 1948 ـ ليستشهد مدافعاً عن القدس يوم الأربعاء، وسألت: ما الذي كان ينشده مقاتل ذاهب إلى استشهاده يا “عز” أجاب: كان يقارن بين الموت الكريم و”ضيافة الجبناء”. استعاد سريعاً صورة الأديب الأردني تيسير سبول، صديقه اليومي لسنوات أربعة، أطلق رصاصةً على رأسه في خريف 1973. كان حديثه، وهو يرسم صورة صديقه، مزيجاً من الغضب والأسى، كما لو كان واقفاً على أطلال بلدته “بني نعيم”، يتطلع إلى ما وراء البحر الميت ويتعلّم الحوار مع الريح.
قرأت فيه، مرة، صورة المثقف المغترب، يعايش الناس ويحتفظ بأسراره مصاحباً جملة واضحة غامضة: (لن يفهمني إلا الزيتون). كان زيتونه مجاز الوطن الذي أكمله غسان كنفاني بعنوان قصصي: “أرض البرتقال الحزين”. رأيت في عز الدين، بعد حين، صورة تداخل صورته الأولى: المثقف النقدي المتعدد. ينقد ما تآلف عليه المثقفون الفلسطينيون بنظر آخر، تباطنه عين القلب، ويوحّد بين النظر السياسي والزيتون “الكنعاني” القديم المدثّر بالأسرار.
سألني مرة، وهو يمسك بمطفأة السجائر” ويبدّد رماد سيجارته في الفضاء: ما الذي يقصده صديقك الماركسي مهدي عامل بعنوان كتابه: نمط الانتاج الكولونيالي؟ قلت: أظن المقصود أن الاستعمار الذي هندس بنية المجتمعات العربية رحل بحضوره المباشر وترك “البنية” تنوب عنه. هذا ما دعاه مهدي عامل: نمط الانتاج الكولونيالي. هزّ رأسه موافقاً وقال: لكأنه ينفذ من الظاهر إلى الجوهر، ولا يرى إلا حقّاً. قلت لماذا لا تسأله وهو الأليف “المتناثر” في أكثر من مكان؟ إن لغته صعبة وموجّهة إلى “الفلاسفة” أمثالك، أجاب، وأنا أقرأ د. حسين مروّة بسهولة. وهو فيلسوف أوضح قوله بمعارف تاريخية.
كان “أبو نزار”، أي الأستاذ مروّة، وهو لا يعرف الفرنسية، أخبرني أن المستشرق الفرنسي الشهير جاك بيرك أثنى على “عزّ” في كتاب صدر له حديثاً: “الألسن العربية اليوم”. فاجأت عز الدين بالخبر، فجاك بيرك يختار ما يذكره، تضاحك وردّ ساخراً: “الحمد لله الذي جعل مستشرقاً فرنسياً شهيراً يعترف بفلسطيني يعمل في “أبو شاكر من تحت”، ولا يحظى باعتراف مكتب إعلامي ضيّق توّهم ذاته دولة.
كيف أحوالك يا عز الدين، سألته في لقاء أخير جاء صدفة في عمّان؟ أجاب: أعمل في جامعة اختارتني ولم أخترها، وأكتب شعراً يوقظني من النوم، وأعيش مع عائلتي مرتاحاً، يشاكسني البعض، بلا سبب، وأنقد بعضاً لسبب، وأشتاق إلى مرابع الطفولة والصبا، القائمة وراء الأفق، تزورني حين تريد ولا أزورها حين أريد، وأمسح عن الذاكرة حكايات الآخرين الصغيرة. كنا معاً قطعنا شوطاً طويلاً في مضيق الكهولة، تساقط ما تساقط دون أن ننتبه وانطفأ ما أطفأه الزمن، وتداعى ما أرهقته الأيام. بقي عز الدين في ذاكرة القلب كما كان، يصل ساخراً متدافع الكلام ويمضي هادئاً، يردّد أغنية قروية في زقاق بيروتي معتم. بعد حين أرسل لي، مشكوراً، أعماله الشعرية الكاملة، وهي عدة مجلّدات، ضاعفت ما عندي من دواوينه. كنت أقرأه شاعراً متميزاً متعدد الطبقات مجدّداً في الأسلوب واللغة والمنظور، وحداثياً قبل أن تشغله قضايا الحداثة الشعرية، ومؤسساً لمشروع شعري فلسطيني، بلا ضفاف، لم يأتِ غيره به.
سألني محمود درويش في ساعة بوح: ماذا ستكتب لنا في العدد القادم من “الكرمل”؟ قلت أتابع الكتابة: “في الذاكرة الوطنية الفلسطينية”. قال كتبت آخر مرة عن معين بسيسو، فلماذا لا تكتب عن عز الدين المناصرة؟ قلت إنه من الأحياء أطال الله عمره، قال أعرف، لكنني أعتقد أن فلسطين أعطت شاعرين كبيرين، رحل طوقان مبكراً، وبقي عز الدين، وهو ظاهرة شعرية فلسطينية كبيرة. إنه أهم ما عندنا اليوم. ورمى بجملة سريعة: “كنت أتمنى أن يكون واعياً، أكثر، لمشروعه الشعري” سألت نفسي، بلا حيرة، أين يضع محمود نفسه في هذا الترتيب؟ وعثرت على إجابة غامضة.
ولعل عفويته المتسائلة المحايثة له هي التي وضعته خارج مصطلح “شعراء المقاومة”، الشائع في السبعينات الماضية، ولم تدرجه بين “شعراء المناطق المحتلة”، الذي جاء به غسان كنفاني. لم يكن هنا ولم يكن هناك كان يتأمل، صامتاً “حداثة خاصة به” وسؤال “كنعانيا المتحدّة”، الذي يضم فلسطين وجوارها العربي. كان يطوّر “خربشاته الشعرية”، كما كان يقول، قاصداً ما هجس به منتهياً، دون أن ينتهي، إلى “قصيدة النثر الرعوية”، التي نشر “مطالعها” في صحيفة “المساء” المقدسية عام 1959. جرّب وأمعن في التجريب ووصل إلى (مذكرات البحر الميت، 1969) و”كنعانياذا” ـ 1983″، التي باطنت تجريباً شعرياً طويلاً قبل الوصول إليها. وكان يسير إلى تجريبه وحيداً.
رمى ذات مرة، سريعاً، تعبيراً، اختصر فيه أداءه: “التجريب حرية”. كان تجريبه فطيناً، يتابع ما يكتبه غيره وينزوي، مرتاحاً، ليتابع ما أراده. ما يفسّر معرفة بالشعر العربي الحديث، كما غيره. كان عارفاً بالشعر العربي القديم قدر معرفته بشعر “الستينات” المعاصر له في أصواته المتعددة: السياب، خليل حاوي، أدونيس، صلاح عبد الصبور وغيرهم، وقارئاً لمجلة شعر. أتاحت له معارفه الشعرية، كما مشروعه الذاتي المتناتج، أن يكون ناقد نفسه، بعيداً عن نقد سائر، تعوزه المصداقية، يجاري السلطات الحاكمة، ويساير معارضة مفترضة، وقد يضيف إلى السلطتين “شعبوية شعرية”، رغم مفارقة القول، تلتمس إرضاء حشود، قد تعرف أسماء الشعراء، وتعرف عن الشعر قليل القليل.
أنهى المناصرة، الذي ارتقى بفن الانشاد الشعري، قصيدته: “لن يفهمني أحد غير الزيتون”، بجمل غاضبة مستقرة: لن يفهمني الدكتاتور الطاغوت. لن تفهمني، ميلشيا الغابات. لن يفهمني، طير الليمون. لن يفهمني أحد. لن يفهمني أحد، غير الزيتون.
الغريب الذي لا يفهمه أحد يلتفّ بغربته، وتحلّق به غربته راجعاً إلى رحم ترابي يمدّه بقصيدة خضراء.
*يقول الدكتور فيصل درّاج: سألت (محمود درويش): من هو أفضل شاعر فلسطيني، فقال: هو (إبراهيم طوقان). وسألت درويش: ومن هو أفضل شاعر فلسطيني من أبناء جيلك المعاصر، فقال هو (عز الدين المناصرة)– (فيصل درّاج، مجلة الفيصل، أطياف ناقصة، مارس 2019).